د. مصباح الشيباني
في ظل مناخ الفتنة السياسية واغتيال العقول، وهيمنة الفوضى والعبثية في إدارة مؤسسات الدولة، ونتيجة لتفكك بنية المجتمع المدني ــ أحزابا ومنظمات ــ انقشعت أوهام الاستقلال، وانكشفت أكبر كذبة تاريخية تحكّم بها قادة تونس السياسيين وحكامها في ظل ما عرفت بـ “الدولة الوطنية” أمام العامة ، منذ أكثر من نصف قرن، وحاولوا من خلالها كتّاب هذه السلطة و”مؤرّخوها” تزييف تاريخ البلاد من أجل إرضاء أهواء أسيادهم وتأسيس شرعية سلطتهم عبر أسطورة الحاكم الفرد صاحب النعمة والمنقذ الفذ”المجاهد الأكبر”.
لقد تأسست فلسفة تاريخ بلادنا على منظومة من المغالطات ووفق مقاربة مخصوصة تحكمها مزاجية شخصية الحاكم ورؤيته حول مفهوم السّيادة. وهذه المزاجية لا يمكن فهمها دون معرفة دقيقة بحيثيات ودقائق الأحداث والأشخاص ( المقاومون) الذين كتبوا تاريخ الحركة الوطنية بدمائهم، وتم اخفاء بعضها وتحريف بعضها الآخر حتى لا يعرف الشعب كيف تمكّنت فرنسا، في تونس، من أن تؤسّس إرثا سياسيا استعماريا بآليات سيطرة أمنية واقتصادية وبتواطؤ مع حكامنا عبر سياسة الخداع والتضليل. فـ”دولة الاستقلال” استمدت شرعيتها من المقيم العام الفرنسي، باعتبار أن “المجاهد الأكبر” بورقيبة وبعد استفراده بالساحة، أمضى على وثيقة جلاء أو “استقلال” شكلي ومبتور وغير مكتمل الأركان والأبعاد، كما تم ذلك في إطار عزل تونس عن محيطها العربي والمغاربي. لذلك، مازالت إلى اليوم، هذه الخطيئة التأسيسية لـ”وهم الاستقلال” تشكّل سببا رئيسيا في عجز السلطة الذاتي ومصدرا من مصادر تبعيتها المطلقة إلى فرنسا. لقد جنّدت السلطات الفرنسية قبل عام 1956 وبعده كل الوسائل المادية والبشرية من أجل تجذير طاقة التعويق والتعطيل وترسيبه في المجتمع من أجل إخضاعه عبر سياسة الخوف والعنف والرعب حينا، والهيمنة الناعمة حينا آخر.
ومن أهم وسائل التعطيل التي اعتمدها في سياسة الاستعمار التضليلية هي نظرية “تخلف الشعب” وعدم جدارته بالاستقلال فأوصلته إلى عمق اليأس وهاويته، أو إلى ما يسميه “مارتن لوثر” بـ “عبودية الإرادة” (The Bondage of the Will) أي إلى الحالة التي يشعر فيها الشعب بأنه لم يعد لحرية اختياراته أي معنى أو تأثير في المشهد. ونتيجة هذه العطالة والإعاقة الفكرية والنفسية لديه، أصبح غير مؤمن بإمكانية النجاة أو تغيير واقعه بإرادته الذاتية وإمكانياته الخاصة.
إن هذه الحالة من الكرب العميق الذي أصاب شعبنا العربي كله، ونتيجة غياب الطاقات السياسية المخلصة وتفاهتها الأخلاقية، تحول الوطن العربي إلى سلعة أو تركة معروضة للبيع في المزاد العلني الإقليمي والدولي، ومقابل المال تحوّل عند هؤلاء العملاء والخونة الإثم إلى برّ، وأصبح انتهاك قدسية الأوطان عندهم مناسك وعبادة. فعادوا بالبلاد قرونا إلى الوراء دون خجل أو حياء، وباسم الشرعية الانتخابيةــ أو اللصوصية السياسية الليبرالية أصبحوا يجندون أعوانهم وعصاباتهم لذبح ما بقي من أبناء وطنهم من أجل إرضاء ولي أمرهم وخدمة مصالحه.
وبالتالي، فإنّ أول مقولة أسقطتها القوى الرجعية والعملاء في تونس بعد 2010 هي مقولة “الشّعب يريد”؛ وهي المقولة المفتاح التي ميّزت وطبعت الحراك الاحتجاجي العفوي في بداية الأحداث. وأمام عجز القوى الوطنية على تعبئة الجماهير وتحقيق مطالبها، اقتنعت أنها لم تكن سوى أجسادا بشرية من أجل الاحتشاد في السّاحات، وأنها أنتجت مفتاحا جديدا للتاريخ لكنها لم تتمكن من كتابة صفحته الأولى، فبقيت على هامش الوعي بهذا التاريخ، ولم تتمكن من وضع إصبعها على أصل الداء وهو “وهم الاستقلال” والوعي الزائف بجلاء الاستعمار عن أرضنا.
لذلك، سلكت الحكومات المتعاقبة في تونس بعد 2010سلوك النعامة ولم يجرؤ أي مسؤول فيها على فتح هذا الملف أو حتى الإشارة إليه بشكل رسمي إلى اليوم، على الرغم من جلاء حقيقة نهب النفط والغاز والملح من قبل المعمرين، بل سعت هذه اللوبيات الحاكمة كلّما فُتح هذا الملف إعلاميا و”فيسبوكيا”، إلى محاولة خلق معارك وهمية وإثارة الفتن والتوترات ومعاودة إنتاجها حتى تظل الهوامش مواضيع جدل وجدال ، ويقوى هذا الجدل أو ينقص إعلاميا بحسب سياق اللحظة وأهدافها وبحسب المقاسات والكيفيات واللباس التي يريدون اكساء الشعب بها، متّكئين في ذلك على ما أصاب النسيج المجتمعي من هشاشة وما تراكم فيه من تصدعاته اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية، فلم يعد قادرا على مواجهة إخفاقات دولتنا العمياء وألاعيب حماتها وبراعتها في مَسْرحة الأحداث، ليصل بها الأمر إلى التبعية المباشرة إلى سفارات الدول الاستعمارية الغربية والعربية والمجاهرة بها.
وطالما أن الخونة والعملاء يتمتّعون بمختلف صنوف الامتيازات والحصانات (المادية والرمزية)، فإنّهم يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم من أجل الظفر أو الاستحواذ على بعض مكتسبات الـ”وهم بالاستقلال”، ويخططون لديموته طالما أن الشعب بات في حالة هدوء وطمأنينة. وأهم هدف في هذه الاستراتيجية أن تتولد عند العامة وبعض نخبها، أنه لا أمل في التحرّر الشامل والنهائي، أو حتى في فك الارتباط مع الاستعمار وتحقيق السيادة على ثرواتنا الوطنية، ليصل حال البلاد إلى حال الضفدعة المرمية في الماء الدافئ في القِدر مستمتعة، ولكنها لا تشعر بالنار فتظلّ مستمتعة به إلى أن تشتدّ حرارة الماء وتُسلق.
فتونس اليوم، وصلت إلى الهاوية لأنها تسير بالتفافاتها وتعرجاتها أسرع مما يستطيع بعض منا اللحاق بها، ناهيك عن أن نتوقع نتائجها ومآلاتها والكيفيات التي تدار بها. وإذا ما ظن أحدنا أنه تمكن من الكشف أو التعرف وتشخيص أدوات هذه الاستراتيجية التي اعتمدها الاستعمار ــ القديم والجديد ــ في بلادنا، فإنه سرعان ما يتم العودة إلى إحياء ومسْرحة بعض القضايا الجدالية ( الهوية، حرية المرأة ، العنف ..) ويظهرها إلى السطح وعبر العنف الاعلامي حتى يبسط سيطرته ويضمن تحكمه في توجيه المجتمع وتنويمه، ويظل يعيش دائما في مناخ تسوده راحة مخادعة ومظللة. وكذلك العمل على تكثيف وتيرة الاشاعات والأخبار الكاذبة من أجل التلاعب بعقول الجماهير طالما أن هذه الإشاعات أو الأخبار توجّه الناس ولا تُعلّمهم، أما قضايا الفساد والتبعية والاستعمار ونهب الثروات وغيرها فمازالت خارج دائرة السّؤال طالما أنّ هذا الشعب نشأ على القابلية للاستعمار. فيعترضنا السؤال الابستمولوجي الملحّ وهو : لماذا التاريخ العربي الوحيد القابل للإعادة(irreversible) دون تاريخ بقية الشعوب والأمم؟، مثلما طرح أسلافنا في القرون الماضية سؤال : لماذا تقدم الغرب وتأخّر العرب؟
لفهم هذه الأزمة ينبغي علينا أن نفكّك خصائص البنية المعرفية والإدراكية التي تتشكّل منها شخصية الحاكم العربي، وكذلك العناصر الاجتماعية والثقافية السّائدة في البيئة المحلية والإقليمية والدولية. فنظرية تبديل السلوك عند الأفراد أصبحت من اهتمامات العلماء والباحثين في العلوم الإنسانية باعتبارها جزءا مكونا لثقافة السياسيين وصانعي القرارات السياسية في مختلف الدول. فعلى الرّغم من أن الاستعمار ليس جديدًا على الصّعيدين العربي والدولي، ولكن الجديد فيه هو أن يتحوّل عند أغلب ساستنا وحكامنا العرب إلى قناعة أو براديغم (مقاربة للتوجيه). وعلى الرّغم من عدم وجاهة هذه المقاربة وعدم عقلانيتها، فإنّها أصبحت مُكوّنا رئيسيا للقيم والسّلوكيات لدى هؤلاء، بل تحوّلت عندهم إلى حقيقة أو عقيدة مثلها مثل بقية العقائد والروحانيات المستبطنة التي يؤمنون بها سواء كانت دينية أو أسطورية أو غيرها.
ولفهم القواعد التي تدار بها اللعبة السياسية في تونس، ومن أجل حل طلامسها ينبغي علينا أن نفكك الثقافة الأصلية التي جمّدت منطق دولة المؤسسات وشوّهته. إذ لم تكن المؤسّسات السياسية الرّسمية في الدولة هي التي تحدّد تصرفات فاعليها، وإنما كانت الالتزامات والتوافقات على الخيانات هي التي تحدّد وتبني حقل أفعالهم ومواقفهم حتى يتمكن القادة السياسيون ومختلف القوى واللوبيات الأخرى المتحالفة معها من أن يستمرّوا بالتلاعب لتحقيق مصالحهم، ولكي يتمكّنوا من ترويض مختلف القوى الهائجة وغير المتناسقة والمبعثرة في المجتمع. لهذا، ينبغي علينا أن نبحث في طبيعة هذه الصراعات التي ارتقت عندنا إلى مستوى “الفتنة”، والتي زادت الوضع تعقيدا أكثر، فأصبح واقعنا مليئا بالتعرجات والتوتّرات، وأصبح مجتمعنا تحكمه نظرية الحالة الطبيعية لـلفيلسوف”توماس هوبز” المتمثلة في “حرب الجميع ضد الجميع”.
إنّها معضلة خطيرة تنبئ بتغيرات أكبر في منظومة القيم السياسية لعل أخطرها هي انهيار الثوابت الوطنية، فأصبحت أرضنا العربية مستباحة من استعمار الشرق والغرب، ومعرضة لمختلف أشكال الانهيارات والتفككات الداخلية. ونتيجة تزييف الوقائع وتدنيس الرايات وتغيير دلالات المفاهيم والمصطلحات، تفكك النسق العام للمجتمع وكثرت فيه أشكال الظلم والفساد، وفتحت الأبواب على مصراعيها ليعود إلينا الاستعمار “الحامي” في أقبح مظاهره. وقد نسي هؤلاء العملاء أن حالنا أصبح مثل حال الذي يقوم بهدم قنطرة وهو فوقها، فعندما تنهار سوف يكون هو المتضرر الأول.
لقد وصلنا إلى مرحلة الافلاس الخلقي والاجتماعي والسّياسي، وطالما بقينا عاجزين عن تصفية هذه الوراثية السلبية التي تحكمت في مصيرنا منذ أكثر من قرن، ومادمنا متقاعسين عن تجديد كيان الإنسان طبقا لمنظومة مواطنية فعلية، ووعي سياسي عقلاني، فسوف نظل نعاود نفس الأخطاء وندور في حلقة مفرغة حول مشاكلنا الحقيقية دون أن ندركها ونبحث عن حلول فعلية لها. وعلى الرّغم من أنّ تراثنا الثقافي العربي مليء بالحِكَم الشعبية المتصلة بالتعامل مع المشكلات الحياتية، فإنّنا لم نتعلم منها ما ينبغي أن نفعله وما ينبغي تجنّبه. وبات اللاوعي الجمعي هو الذي يوجه سلوكاتنا ويشكل حياتنا، وأصبحنا نعيش في حالة انفصام لا حدود لها. ولا يبدو أن المشكل الرئيسي يتمثل في إيجاد الحلول لهذه المتاهة، ولكن الأهم من ذلك هو أن نعرف كيف وصلنا إلى هذه الحالة وبتنا نشكّل متاهتنا بإرادتنا؟ وكيف يمكن ضمان عدم معاودة تشكلها في المستقبل؟