تُثارُ في أيامِ المحرم شبهاتٌ حول القضية الحُسينية وهو أمرٌ طبيعي إذ أن أي قضية عقائدية لابدّ من أن تتعرّض لتساؤلات كثيرة فيبرز هنا دور ذوي الأقلام للدفاع و التصدي لكل ما من شأنه أن يخدش حقيقة قضية أبي عبدالله،
الشبهة الأولى التي كثيراً ما تكررت هي أن بعض الناس يشكك ببعض جزئيات وتفاصيل واقعة الطف، فيدعون أن هناك روايات أشبعت بالتدليس والكذب لاستدرار عواطف العامة واستنزال دموعهم، منها مثلاً ادعاؤهم أن الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، لم يطلب لطفله الرضيع ماءً يوم عاشوراء، ذلك لأن هذا الموقف من الطلب فيه ذلةتتنافى مع عزة أبي عبدالله، وكيف يأخذ طفله إليهم وهو يعلم أنهم سيقتلوه أساساً؟!
نقول في جوابهم: إن الإمام المعصوم هو عدل القرآن بمعنى أن كما للقرآن سبعون بطناً وكما له ظاهر وباطن وتفسير وتأويل كذلك للإمام المعصوم، و واقعة الطف لابد لها من مستوى فهمي أعمق بقليل مما نتعامل به نحن مع ظواهر الأمور فقط، إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان في مهمةٍ لتأدية رسالة الله على الأرض بإيصال الناس إلى مقام الخلافة الإلهية و تحقيقهم بحقيقة التوحيد حتى لو كان الثمن دماؤه، إن استسقاءه الماء لرضيعه بعد أن اشتد عليه العطش في ظهر العاشر من المحرم لا يتنافى مع العزة أبداً فالإمام لم يكن في موقف ذليل بل طلب ماءً لطفلٍ كاد يقضي نحبه عطشاً ونحن نعلم أن في عادات العرب لا مانع ولا حرج من طلب الماء (كما أن مسلم ابن عقيل وقف على عتبة دار طوعة طالباً شربة ماء) و قد بين الإمام الحسين أن موقفه هذا لا علاقة له بالحرب القائمة بينه وبين القوم فإن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار؟، لكن قاتلهم الله ولعنهم لعناً وبيلاً لم يرقَّ حالهم له،
أما إذا أردنا أن ننظر من زاوية أخرى فالإمام في تلك الحال كان في مقام إجراء المشيئة الإلهية على يديه وهو مقام عظيم و صرح شامخ، هو من البداية يعلم أن عياله سيؤخذون سبايا لكن (شاء الله أن يراهنّ سبايا)، وأبو عبدالله كان يُجري مشيئة الله، وكذلك ما حصل مع علي الأصغر حين طلب له الماء، صحيح أنه كان يعلم أن الرضيع يُقتلُ لكنه تقدم لإجراء المشيئة الإلهية (و في أخذه الدم الذي فاض من نحر رضيعه وإلقائه نحو السماء إشارة لطيفة لهذا المعنى)،
هذا مقام من مقامات أبي عبدالله، والمقام الآخر أنه كان (عليه السلام) في مقام المحاولة مع هؤلاء القوم ليخلصهم من استمكان الشيطان عليهم، فلو أنهم سقوا الرضيع في تلك اللحظة لتغيرت كثير من الأمور، إن أبا عبدالله كان يريد منهم حركة ولو بمقدار شبر واحد وكان هو سيتكفل بباقي المسير و يوصلهم إلى ما أوصل إليه الحر الرياحي، ونفس هذا المعنى نلاحظه أن قبل استشهاده صلوات الله عليه حين هوى من على ظهر جواده وأثخنوه بالجراح والنبال والرماح طلب منهم ماءً، كان الحُسين رغم كل جراحه يحاول معهم، يحاول مرةً أخيرة لعلهم يرجعون، لعله يستطيع استنقاذهم، كان يجود بنفسه من الألم والعطش لكن كل همه أرواحنا فداه كان منصبّاً على كيفية إيصال الناس إلى حقيقة التوحيد، وهذا يكشف لنا جزءً يسيراً من عظمة أبي عبدالله الذي لم يشغل ذهنه في الطف شيءٌ سوى الله و كيفية أداء وظيفة المعصوم التي أنيطت به ولو بتقطيعه إرباً إرباً، كان الإمام مندكّاً في حضرة القدس وكل أفعاله من هذا المنطلق..
شبهة أخرى أنهم يستشكلون على طلب علي الأكبر الماء من أبيه بعد رجوعه إلى المخيم، كيف يطلبه و هو يعلم أن طلبه غير متوفر عند الحُسين؟
إن الإمام علي الأكبر(عليه السلام) كان يشكو لأبيه العطش و كان الإمام الحسين يصبره ويبشره، نعم هو يعلم أن هذا الماء الذي يطلبه غير متاح الآن لكن هذا لا يتعارض مع شكوى العطش،
و نعود هنا لذات المشكلة وهي فهم سطحي ظاهري للأمور، لماذا نعتقد أصلاً أن الأكبر كان يريد هذا الماء؟
ما علمنا بحقيقة الماء الذي كان يطلبه الأكبر من أبيه؟ وأي ماء حقيقة هو الذي اشتد عطشه إليه ثم حين استشهاده سقاه الرسول منه إذ لا ظمأ بعده أبداً،
إننا حين نتعامل مع أهل البيت يجب أن نفكر بمقاماتهم الشامخة ولا نقيس على أنفسنا،
ربما وكما يقول الشيخ أحمد الكربلائي عن مسلم ابن عقيل حين طلب ماءً، كان يريد أن يصل إلى مقام معاينة التوحيد و رؤية توحده مع الإمام الحسين سلام الله عليه ليرى مقدار امتلاء وجوده بالإمام الحسين و ليرى في ذاته أنه لا وجود لغير الحُسين،
هذه العظمة هو ما يتناسب مع مقام علي الأكبر السامي و ليس ما تذهب إليه أذهاننا القاصرة أنه كان يطلب مجرد ماءٍ يشربه ليرتوي عطشه الذي اشتد منذ ثلاثة أيام،
كان الأكبر متعطشاً لشيءٍ أعظم وقد أدرك مُناه إذ سقاه الرسول بما لا يظمأ بعده أبداً وما أدرانا ما الذي سقاه فنحن في النهاية نبيع تمراً لم نذُقْهُ،
وكذلك نذكر هنا اعتراضاً موقف أبي الفضل العباس على النهر إذ لم يشرب الماء حين وصل إليه وفي هذه الحركة كثير من الإشارات إلى شموخ مقام و حالات أبي الفضل (عليه السلام)، كان في مقام التجلي إذ كان هو ظهوراً للعزة والكبرياء والجلال الإلهي حين أثبت للقوم أنه يستطيع لكن لا يفعل وفاءً و حُباً لإمام زمانه و أخيه، ثم أنه كان يختبر نفسه ليرى إلى أي مقامٍ وصلت، كان أبو الفضل يروم مقام الفناء في ذات الحُسين(والفناء في الحُسين هو فناء في الله قطعاً وبلا أدنى شك)، فاغترف غرفة بيده ثم ألقاها فوصل واتصل…إذ سحق على آخر ذرة من نفسه في تلك اللحظة حين قال يا نفس من بعد الحُسين هوني…قام بتضعيفها لآبعد حد، ثم احترق فناءً فقال: و بعده لا كنت أو تكوني…لقد اتحد الحبيب بحبيبه وصاو واحداً وعادت الموجة إلى قلب البحر وهي التي لم تنفصل عنه أبداً.
شبهة أخرى أن كيف خرجت السيدة زينب والنساء الهاشميات يلطمن على الحسين ويبكين ويندبن الإمام ألا يتعارض هذا الموقف مع وصية الإمام الحسين عليه السلام)،( أخية لا تلطمي عليًّ وجهاً …)؟!
إن هذا الكلام ورد صريحاً في زيارة الناحية المقدسة (فخرجن من الخدور….)، إن البكاء على الحسين و شعيرة اللطم عليه وإظهار التجزع هو مما أثبته أهل البيت فالأئمة كان لهم بكاء طويل ومرير على يوم أبي عبد الله كما جاء في رواياتنا
قال الإمام الرضا (ع):
«إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلى الله عليه وآله حرمة في أمرنا.
ثم قال (ع):
كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه، حتى تمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه وهو يقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله عليه.
ثم قال:
إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام».
(ابن قولويه، كامل الزيارات)
طبعاً مع حفظ الاختلاف الكبير بين بكائنا نحن وبين بكاء السيدة العقيلة زينب(عليها السلام) والأئمة المعصومين، فإن بكاءهم يكون بكاء العارف بالمصيبة لأنهم كاملون في عوالم التوحيد، فهم لا يبكون فقط على جراح الحسين وعطشه و ذبحه و سحق الخيل له -مع عظم كل ذلك- لكنهم يبكون على ما ضاع من رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)، يبكون لأن التجلي الأعظم لحضرة الرسول كان في الحُسين وقد فُعل به هكذا، يبكون على ما انتُهِكَ من حرمة جمال الله الذي كان يسعى لاستنقاذ أهل الأرض وإخراجهم من الظلمات إلى النور..كان بكاؤهم بكاء العارف بحقيقة مصيبة أبي عبدالله وليس بكاء عاطفة فقط، وإن هذا النوع من الحزن إذا أدركه الإنسان سيكون كفيلاً برفعه من أسفل سافلين إلى عليين في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع الحسين وأصحاب الحسين لأنه بكاء يستدعي العمل و يستوجب الوفاء لدم أبي عبدالله من خلال إصلاح النفس والجد والاجتهاد في المراقبة و التزكية، وهي مرحلة تأتي بعد أن يعبر الإنسان بكاء العاطفة والمشاعر،
وختاماً إن قضية الإمام الحُسين عليه السلام، تشبه القرآن، كما للقرآن عوالمٌ لن نفهمها إلا بالغور فيها هناك في كربلاء ما لا نستطيع أن نفهمه ما لم نبتدأ برحلة السير إلى الله، هناك بواطن وإشارات ودقائق فلا ينبغي أخذ الأمور بظواهرها والاقتصار فقط على ما في السطح، فإن البحار في السطح أمواج فقط والدر المكنون بأسفل قاعها.