لا شك في أن مهنة الصيد محفوفة بالمخاطر والكوارث الطبيعية كاشتداد الرياح والعواصف وهطول الأمطار لكن الصيادين يصارعون ويغامرون ليس لاستغنائهم عن حياتهم بل لاضطرارهم للحصول على قوت يومهم لتوفير الحياة والغذاء لهم ولمن يعولهم. أما في غزة فيمكن القول بإنه لم تدفع تلك الكوارث الطبيعية يومًا الصيادين لترك هذه المهنة وإنما هناك كوارث أخطر من ذلك تتجسد في شكل قوات احتلال لم تترك بابًا للرزق إلا قفلته في وجه سكان هذا القطاع المحاصر منذ عام 2006، يشكل هذا الاحتلال أكبر كارثة لصيادي القطاع بسبب انتهاكاته المستمرة وملاحقته الدائمة لأصحاب تلك المهنة بشكل أجبر بعضهم على تركها إلى الأبد.
اتفاقية «أوسلو» بشأن الصيد
تنصّ اتفاقية «أوسلو»، الموقَّعة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، في 13 أيلول/سبتمبر عام 1993، على السماح للصيادين بالإبحار مسافة 20 ميلًا بحريًا على طول شواطئ قطاع غزة، ومنذ اعتلاء حماس الحكم في غزة، أصبح مسألة تمديد وتقليص المسافة مسألة مرتبطة بالتطورات الأمنية ويشار أن الاحتلال قد قلص المسافة بعد العملية العسكرية الأخيرة إلى 6 أميال، وجاء قرار تل أبيب حينها، إثر اندلاع 3 حرائق جنوبي إسرائيل، حيث يُشتبه أنها نتجت عن بالونات حارقة أطلقها نشطاء من بحر غزة، ليرفعها في شهر تموز/يوليو من السنة الماضية إلى 12 ميلًا بحريًا، في سلسة من الإجراءات التي يُراد بها استمرار الهدنة في أسلوب شبيه بسياسة بالعصا والجزرة.
الانتهاكات الإسرائيلية تجاه الصيادين
بعد فرضها الحصار على قطاع غزة منذ عام 2006، اتبعت قوات الاحتلال سياسة ممنهجة لخنق قطاع الصيد ببطء إلى أن يحين الوقت لتعلن خبر وفات ثاني أهم مهنة في القطاع بعد مهنة الزراعة، إذ تتبع قوات الاحتلال قواعد صارمة تخالف القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وفيما يلي أبرز تلك الانتهاكات:
-
تلاعب الاحتلال برقعة الصيد
شهد يوم 22 آذار/مارس 1996، بداية أول تقليص لمسافة الصيد لتصبح 12 ميلًا بحريًا، ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية أواخر العام 2000، بدأ الاحتلال بالتلاعب بمساحة الصيد بشكلٍ محدود، إلا أن تقليصه للمساحة المقلصة بالأساس، برز مع فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ومن ثم سيطرتها على القطاع عام 2007.
حيث قُلصت المساحة عام 2006 من 12 ميلًا بحريًا إلى ستة أميال بحرية، وفي عام 2008، ومع اندلاع الحرب الأولى على غزة، تقلصت المساحة لتتراوح بين ميل ونصف وحتى ثلاثة أميال في أفضل حال، ثم زادت تلك المساحة عام 2012 وصارت بين ثلاثة وستة أميال، وتراوحت عامي 2016 و2017 بين ستة وتسعة أميال، إلّا أن تلك الفترات لم تخلُ من قرارات إغلاق البحر بشكلٍ كامل أمام حركة الصيد، تحديدًا في فترة مواسم الأسماك، أي ما بين نيسان/أبريل إلى حزيران/يونيو.
ارتفع تلاعب «إسرائيل» بمساحة الصيد بين عامي 2018 و2019 خلال فترة مسيرات العودة على طول الحدود الشرقية للقطاع طيلة عامين، حيث قلصت الحكومة الإسرائيلية مساحة الصيد إلى ثلاثة وستة أميال بحرية، في شكل من أشكال العقاب الاقتصادي لقطاع غزة بأكمله، مثلما حدث أواخر نيسان/أبريل 2021، من قرار إغلاق البحر ليومين أمام حركة الصيد؛ ردًا على البالونات الحارقة التي انطلقت من القطاع تجاه أراضي الاحتلال.
ووفقًا لشهادات عدد من الصيادين لمركز «الميزان» لحقوق الإنسان، فإن مسافة الستة أميال والمفروضة في أغلب الأوقات، هي عبارة عن مناطق بحرية رملية لا تتوفر فيها الأسماك إلا بشكل محدود، بينما تتواجد هذه الأسماك في المناطق الصخرية في العمق عند مسافات لا تقل عن 12 ميلًا بحريًا تقريبًا.
بالإضافة إلى أن عمليات التقليص والزيادة في مساحات الصيد التي تحددها قوات الاحتلال تظل أقل من الحدود المقررة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للبحار، وحتى دون اتفاقية «أوسلو»، مع الأخذ في الاعتبار إغلاق الاحتلال للبحر أمام الصيادين في فترة تتراوح ما بين 10 إلى 15 يوم في الشهر الواحد.
وخلال الفترة الأخيرة قرر الاحتلال زيادة مساحة الصيد إلى تسعة أميال في بعض المناطق؛ لكن نقيب الصيادين في غزة «نزار عياش» رأى أن الاحتلال يريد من وراء ذلك تقسيم البحر إلى نصفين، مشيرًا إلى أن زيادة المساحة لن تتم فعليًا سوى في المنطقة الواقعة ما بين وادي غزة للجنوب بما يعادل 9 أميال، أما المنطقة الشمالية فلن تزيد عن ستة أميال، الأمر الذي سيتسبب في زيادة أعداد الصيادين في المناطق التي ستشملها التوسعة ويزيد من معاناة الآخرين.
وفي الشأن ذاته، رأى بعض الصيادين أن تعمد الاحتلال على زيادة مساحة الصيد من منتصف القطاع إلى جنوبه من شأنه أن يدفع الصيادين في منطقة الشمال وغزة إلى تركها طوعًا باتجاه الجنوب، لأن أي زيادة في مساحة الصيد يحاول الصياد الاستفادة منها. ولكن يجمع الصيادون على أن الحديث عن توسعة أو زيادة في مساحة الصيد يكون بعد العشرين ميل لا المتفق عليها، لأن ما دونها فهو إعادة جزء مما تم سرقته من حقوق الصيادين.
كما صرح «نزار عياش»، أيضًا بأن المسافة التي حددتها اتفاقية «أوسلو» – 20 ميلًا- هي المسافة الوحيدة التي يمكن للصياد فيها أن يعوض خسائره التي تكبدها، بعد حرب 2014 وحتى الآن، ولا يزال يعاني من آثارها.
-
ملاحقات غير شرعية
تحظر قوات الاحتلال على الصيادين العمل في مناطق تقدر نسبتها بحوالي 85% من المساحة التي تقرّها اتفاقية «أوسلو» وملاحقها، وبالإضافة إلى ذلك تعتدي قوات الاحتلال على الصيادين عبر إطلاق النيران عليهم مباشرة وتوقع منهم قتلى وجرحى كما تعتقل كثيرًا منهم كل عام، فمن جانبها، رصدت نقابة الصيادين أكثر من 30 حالة إطلاق نار من قبل قوات الاحتلال، منذ بداية العام الجاري وحتى شهر آذار/مارس الماضي، وأشارت النقابة إلى أن الأرقام التي لم يتم رصدها أكبر بكثير.
بالإضافة إلى كل ما سبق تستخدم قوات الاحتلال أيضًا أبشع الأساليب لإهانتهم – كتوجيه الإهانات اللفظية والجسدية وإجبارهم على خلع ملابسهم والسباحة في عرض البحر أثناء اعتقالهم- فضلًا عن تخريب معدات الصيد وممتلكاتهم والاستيلاء على قواربهم، كما تلاحقهم في عرض البحر وتفتح الزوارق الحربية الإسرائيلية خراطيم المياه تجاه مراكب الصيد ما يؤدي إلى إغراقها بشكل جزئي، وفي كثير من الأحيان ترتكب هذه الانتهاكات داخل مساحة الصيد المسموح العمل فيها.
-
منع دخول المعدات اللازمة
أحد أبرز وأضر انتهاكات الاحتلال تتمثل في مواصلة الاحتلال منع إدخال كافة المحركات والأسلاك المعدنية، وقطع الغيار اللّازمة لصيانة مراكب الصيد، وهو الأمر الذي أدى إلى تضاعف أسعارها في الأسواق غزة المحلية -إن وُجدت- كما أثَّر هذا المنع على قدرة الصيادين على صيانة مراكبهم المعطلة.
-
اللنشات والحسكات
وبدوره، قسَّم مسؤول لجان الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعيّ «زكريا بكر» مراكب الصيد التي في حاجة إلى صيانة دائمة تنقسم إلى عدة أقسام، أوّلها: «اللنشات»، والتي يُطلق عليها محليًا «الجر»، ويقدّر عددها، قبل عام 2000، بأكثر من 20 مركبًا، وتعمل على مدار 24 ساعة، أما حاليًا فقد تقلّص عددها إلى 11 واحدًا فقط، ثلاثة منها معطلة بشكل كامل لفترة تزيد عن 20 شهرًا، لحاجتها إلى ناقل حركة «قير بحري» كي تستمرّ في عملها.
أما القسم الثاني من المراكب التي تحتاج إلى صيانة دورية «الحسكات»، وهي المراكب الصغيرة، ويبلغ عددها حاليًا أكثر من 800 مركب، تعمل بالمحركات الخارجية، ويقدر العمر الافتراضي لها بين أربعة إلى خمسة أعوام، وتعمل جميع المراكب الكبيرة بمحركات لا تتلاءم مع الحياة البحرية، ويتمّ الحصول عليها من الشاحنات الكبيرة، بعد إجراء التعديلات الفنية عليها، إلا أنّ مساوئها كثيرة، وعمرها الافتراضي يقدر بين عامين إلى ثلاثة أعوام، كما تستهلك تلك المحركات كميات كبيرة من الوقود، وهي في حاجة إلى صيانة دائمة، حسب تعبير مسؤول لجان الصيادين.
وأوضح «بكر» أن مراكب الصيد في غزة في حاجة إلى أكثر من 300 محرك كي تستطيع الاستمرار في عملها، وهي غير متوفرة في الأسواق المحلية بشكل كامل، وبالتالي؛ فإنّ 95% من المراكب أصبحت غير صالحة للصيد، بعد 14 عامًا من منع الاحتلال إدخال قطع الغيار والمعدات اللازمة لصيانتها، مشيرًا إلى أنّ عدد القوارب التي تحتاج إلى صيانة تقدَّر بـ250 قاربًا، وهي في حاجة إلى الألياف الزجاجية والأخشاب، وناقل الحركة، وغيرها من المعدّات اللازمة لعملها.
لكن الإجراءات الإسرائيلية أثرت على صناعة المراكب في غزة؛ حيث لم يشهد القطاع، منذ عام 2012، أيّة صناعة جديدة للمراكب، كما اختفت الورش المخصصة لصيانتها، ولم تتبقَّ سوى ورشة واحدة تقوم بإجراء الإصلاحات الطفيفة على المراكب وتعمل بالحدّ الأدنى، وتكاد تكون شبه مقفلة، وفق ما ذكره «بكر».
«الانسحاب من البحر»
تضييق مساحة الصيد، منع إدخال معدات الصيانة، مطاردة الصيادين لتركهم ما بين جرحى وقتلى ومعتقلين، وتخريب قواربهم، فضلًا عن إغلاق البحر في ذروة انتشار الثروات السمكية، كل ذلك جعل العائد المادي من هذه المهنة منخفضًا بشكل لا يتناسب مع المصاريف التشغيلية اللازمة، من محروقات وأجور عمال وغيرها، لذا كان من الطبيعي أن تدفع كل تلك المخاطر عدد كبير من الصيادين إلى ترك مهنتهم بعد غلق كل تلك الأبواب في وجوههم، بل وربما يدفع ذلك أحدهم لبيع قواربه وتنظيم هجرات غير شرعية؛ بحثًا عن بحر آخر في وطن آخر يحصل فيه على قوت يومه هو ومن يعولهم. لقد نجح الاحتلال تدريجيًا في صرف نظر عدد من الصيادين عن هذه المهنة فلم يعد التشبّث بها كما كان سابقًا.
لقد أضافت انتهاكات واعتداءات الاحتلال أعباء اقتصادية على الصيادين والعاملين في مهن الصيد، مما أدى لتقليص عدد الصيادين من 10 آلاف صياد عام 1997، إلى حوالي 4,500 صياد، وفق إحصاءات رسمية لوزارة الزراعة.
كما ذكر «زكريا بكر» أن حوالي ألفي عاملٍ مسجّلٍ في قطاع الصيد غير قادرين على كسب قوتهم من خلال البحر، بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المواد اللازمة لإصلاح مئات من القوارب غير المستخدمة، ويضيف أن إغلاق البحر والتلاعب مساحة الصيد، لا ينطوي فقط على منع الصيادين من كسب قوتهم.
ضرب الاقتصاد
أوضحت نقابة الصيادين أن الاحتلال يهدف من كل تلك الانتهاكات إلى جعل مهنة الصيد من المهن الخطرة؛ أملًا في ضرب الاقتصاد الفلسطيني كون هذا القطاع بالغ الأهمية إذ يشكل 15% من إجمالي الناتج الاقتصادي، في أفضل الحالات، بحسب ما ذكره مدير دائرة الثروة السمكية في وزارة الزراعة «جهاد صلاح». كما يشغل أكثر من أربعة آلاف صياد، ومئات العمال المرتبطين بالصيد، مثل: تجار السمك، والميكانيكيين، والكهربائيين، وبنّائي المراكب، وتجار أدوات الصيد.
موقف حماس
كل ما سبق ذكره من تلك الانتهاكات يدفع البعض للتساؤل بشأن دور حركة حماس تجاه تلك الانتهاكات باعتبار أن قطاع غزة تحت سلطتها، لكن حتى الآن لم يظهر أي رد فعل قوي لهذه الحركة إذ يتلخص دورها في سياسة التنديد فقط دون أي ضغط كلما ظهرت حوادث اعتقال أو إطلاق نار على أحد الصيادين من فترة إلى أخرى، إذ يقتصر دور حماس على التصريحات الكلامية غير المصحوبة بأي فعل يمكن أي يجلب حقوق هؤلاء الفئة التي يظل مصيرها معلقًا على حبال الفقر والبطالة. في المقابل ترتبط تضييقات الاحتلال بمقاومة حماس لها بين الحين والآخر أو وجود صلة بين حماس وبعض الصيادين، ففي يوم 12 أيار/مايو الجاري، اتهمت سلطات الاحتلال ثلاثة صيادين بتهمة تهريب بضائع غير مشروعة -مكونة من معدات لتصنيع أسلحة- لحركة حماس عبر البحر. لذا فكل تلك الممارسات والتضييقات على الصيادين تأتي لضرب الاقتصاد وزيادة معدلات البطالة من جهة فضلًا عن محاربة حماس من الجهة الأخرى.