بعد مضي أكثر من 160 يوماً للعدوان الأمريكي الإسرائيلي الغربي على قطاع غزة, على وقع إرتكابه المجازر والإبادة الجماعية, وتطبيق أبشع أنواع الحصار اللاأخلاقي واللا إنساني على أهالي القطاع, ووسط تعنت ورفض الكيان الإسرائيلي الوظيفي المدعوم بالرفض والفيتو الأمريكي لوقف إطلاق النار والإتفاق على هدنة إنسانية..
يبدو أنه من الأهمية بمكان, تكرار التأكيد على أن المقاومة الفلسطينية تواجه العدوان الأمريكي الغربي وجهاً لوجه, والذي تقوم بتنفيذه قوات وحكومة ومستوطني الكيان الإسرائيلي, بعدما تأكد للعالم أن الولايات المتحدة هي التي تدير العدوان منذ لحظاته الأولى, وأثبتت بأنها العدو الحقيقي, وبأنها المعني الأول بالقضاء على المقاومة في فلسطين والمنطقة برمتها, بعدما نجحت بإنتزاع عقيدة عديد الجيوش العربية, وأقنعت أنظمة دولها بأنها الضامن الوحيد لبقائهم ولأمنهم السياسي والإقتصادي, لكنها فوجئت بفكرة المقاومة وكيف تحولت إلى عقيدة ومحور قوي يستند إلى وحدة ساحاته وجبهاته والتفاف الجماهير حوله, وبأن الكلمة العليا في المنطقة باتت للمقاومة, وليست للكيان الوظيفي الذي انكشف ضعفه وبأنه لا يعدو أكثر من قاعدة عسكرية أمريكية – غربية, لتحقيق أهداف الولايات المتحدة, وفرض هيمنتها على قرار ومقدرات ومصير ومستقبل دول المنطقة.
واستمرت بدعم هذه القاعدة العسكرية منذ بدايات القرن الماضي, وصولاً إلى العدوان الحالي, بالمساعدات العسكرية والمالية والسياسية والإقتصادية والإعلامية, ومع ذلك يعتبر البعض أن الصراع في غزة هو بين طرفين أو جانبين هما الجانب الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية, متجاهلين هوية داعمي الكيان وحجم ما يُقدم إليه منذ عقود, وفي غفلة عن إعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز بقوله: “أعطتنا أمريكا المال, وأعطتنا فرنسا السلاح مقابل المال, فيما أعطتنا ألمانيا المال والسلاح”, الأمر الذي تطوراليوم وأصبح جميع الغربيين يقدمون المال والسلاح للكيان بالمجان.
ومع ذلك, فشل العدوان في تحقيق أياً من أهدافه المعلنة, وتم فضح وانكشاف حقيقة عشرات المخططات والمشاريع الخبيثة التي كانت معدة مسبقاً, وتبين أنها بمجملها تقوم على تهجير وتدمير القطاع والقضاء على المقاومة الفلسطينية, والإنتقال نحو لبنان للقضاء مقاومتها, وعلى ما تدعوها سلطات الكيان بـ “تهديدات” الجبهة الشمالية, وكل مشروع وحزب وفصيل مقاوم لمشاريعها ومخططاتها في المنطقة.
وبالرغم من سقوط وفضيحة الرواية الإسرائيلية والأمريكية, واستمرار التظاهرات المليونية حول العالم المطالبة بوقف إطلاق النار, بالإضافة إلى الدعم الدولي الكبيرالذي حظيت به محكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل, ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية, والهزائم العسكرية الإسرائيلية والأثمان الباهظة التي تتكبدها قواتها البرية, وأمام ضغط الشارع الإسرائيلي حيال موضوع تحريرالأسرى, والخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية وحتى داخل الولايات المتحدة, احتاجت إدارة بايدن وحكومة نتنياهو إلى الوقت, لتدارك الأمر ولإبعاد شبح الهزيمة المشتركة.
فقد تم استغلال الخلافات بين بايدن نتنياهو, لإطالة أمد العدوان وزيادة الضغط على المقاومة, وجرى تضخيمها بشكل دراماتيكي, في الوقت الذي ينحصر الخلاف بينهما على كيفية الوصول لأهداف العدوان وليس على وقف العدوان نفسه, في وقتٍ رحب فيه بايدن بكلام زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الامريكي “تشاك شومر”, الذي دعا إلى اسقاط حكومة نتنياهو وإلى اجراء انتخابات مبكرة, واعتبر أن نتنياهو يقود “إسرائيل” لتكون دولة منبوذة, على الرغم من أن إدارة بايدن لا تريد إبعاد نتنياهو, ولو أرادت لفعلت, لكنها تدرك أن إبعاده أو التوصل إلى الهدنة سيفجر الداخل الإسرائيلي على الفور, وتحاول جلبه نحو القبول بطريقتها السياسية وبإستعمال الدبلوماسية والضغوط أكثر فأكثر, وترى بأن نتنياهو فشل في تحقيق أهداف الولايات المتحدة, ولم يستطع القضاء على المقاومة, وعلى تحالف محور المقاومة الممتد إلى باب المندب ورأس الرجاء الصالح.
صحيح أنهما تبادلا الإنتقادات, لكن بايدن وجد نفسه مضطراً لتأكيد دعمه المطلق والثابت لإسرائيل, وإلى توبيخ نتنياهو بشكل علني وبأنه “يضر إسرائيل أكثر مما ينفعها”, في حين أن الأمر يبدو مفيداً لكليهما, إذ يعزز تعنت نتنياهو مواقفه أمام اليمين الإسرائيلي المتطرف, ويحسن صورة بايدن الصهيوني غير اليهودي أمام ناخبيه, وهو الساعي لدعم “إسرائيل” دون أية خطوط حمراء.
وما تؤكده جولات المفاوضات حتى الاّن, أنه ليس لدى بايدن ونتنياهو أية نية لوقف إطلاق النار, بعد أن تم إفشال اللقاء الأول في مصر بإرسال نتنياهو وفداً بلا صلاحيات, ثم انتقلت المفاوضات إلى باريس 1 ومن ثم باريس2, وعادت إلى مصر بغياب الوفد الإسرائيلي, وطالب الوسطاء حماس بالرد على الموقف الإسرائيلي في باريس2, وبذلك نقلوا الكرة إلى ملعب حماس, وبأنها مسؤولة عن هدر الوقت, وعن استمرار التجويع والحصار والهدنة والإتفاق.
ومع حلول شهر رمضان المبارك, ذهبت وعود بايدن بالتوصل إلى إتفاق الهدنة أدراج الرياح, وانتهت مسرحيات إلقاء المساعدات جواً, وجاء بايدن بمشروع الميناء العائم في بحر غزة الذي يحتاج إلى مدة شهرين لإنشائه, بعدما أراده عنواناً إنسانياً لكنه في حقيقته يمثل بوابة رئيسية ليس لتهجير الغزاويين فقط , بل لإنهاء القضية الفلسطينية برمتها.
لم تكن المقاومة الفلسطينية يوماً متروكة لوحدها ولن تكون, وستحظى دائماً بدعم وإسناد محور المقاومة, ترجمةً لمفهوم ومبدأ “وحدة الساحات”, وقد تجلت الأفعال بوضوح شديد, بدأ منذ 8/تشرين1, ومساندة حزب الله عبر الجبهة اللبنانية, والمساندة الكبيرة لليمنيين, وكذلك العراقيين والسوريين, وبالدعم الإيراني المرئي وغير المرئي, وبات من واضحاً أن جبهات المساندة أرقت مضجع الأمريكيين والإسرائيليين , وبات عليهم تفادي لحظة انطلاقها بتوقيت موحد, الأمر الذي ترجمه الرئيس بايدن مراراً وتكراراً بكلامه عن عدم رغبته بتوسيع الجبهات والمواجهة, على الرغم من أنه ونتنياهو لم يتوقفا عن الدفع بالمشاريع الخبيثة التي تطال دول وشعوب المنطقة العربية مجتمعة, أمورٌ بمجملها جعلت الجبهة اللبنانية واليمنية تستحوذ على الهم والإهتمام الإسرائيلي والأمريكي والغربي الأكبر.
وعلى الرغم من سخونة هاتين الجبهتين, إلاّ أنها المرة الأولى التي توسع الصواريخ اليمنية تطبيق حصارها إلى رأس الرجاء الصالح, وبالتوازي تعود إسرائيل إلى التمسك بتراجع قوة الرضوان في حزب إلى ما وراء نهر الليطاني بهدف إقامة منطقة منزوعة السلاح, في أعقاب قيامها بتوسيع هجماتها وضرب مواقع جديدة لحزب الله وأكثر عمقاً, وانتهكت قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة، لكن المقاومة أمطرت المواقع الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل بعدد كبير من الصواريخ, لإجبارها على العودة إلى قواعد الاشتباك على الحدود, وسط زيارات الموفد الأمريكي هوكشتاين, الذي سبق له وأن فصل بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية, ورفض الإعتراف بوحدة الساحات, وبأن وقف إطلاق النار في غزة لا يعني توقفه على الجبهة الشمالية مع لبنان, لكن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري رد عليه بحزم, وبوجوب تنفيذ القرار 1701 كاملاً، أو سيعود لبنان إلى “تفاهم نيسان” لعام 1996, الذي يجيز للمقاومة الرد على كل إعتداء إسرائيلي.
في ظل المعطيات الحالية, تبدو العقبات والعثرات كبيرة أمام التوصل لإتفاق أو هدنة, وسط إصرار نتنياهو على اجتياح رفح, الذي يعتبر عدم الذهاب نحو رفح هو خسارة للحرب, وعلى الرغم من مصادقة مجلس الحرب الإسرائيلي على خطة التوغل البري في رفح, إلاّ أن الشكوك كبيرة في قدرته على تحقيق أياً من أهدافه في رفح.
على الرغم من رمي الكرة في ملعب حماس, لكنها رفضت الوقوع في الفخ وبتقديم رد رسمي, لكنها قدمت للوسطاء مقترحاً شاملاً للإتفاق يرتكز على “المبادئ والأسس, وتشمل وقف الحرب على القطاع, وتقديم الإغاثة والمساعدات الفورية, وعودة النازحين إلى بيوتهم, وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع, في وقتٍ وصف فيها نتياهو مطالب حماس “بـ “غير الواقعية”, ولا زال الطرفان يتبادلان عبر الوسطاء المقترحات حول إطلاق الأسرى وطبيعتهم وأعدادهم وفق مقترح حماس.
ومع ذلك, ولا يُتوقع لزيارة الإسرائيليين إلى قطر وبحضور رئيس الموساد الإسرائيلي والوفد الإسرائيلي “المتصارع”, والذي يحمل من الخلافات البينة أكثر مما يحمله من جدية احتمالية التوصل إلى إتفاق, وهذا بالضرورة لا يساعد على خلق أي متغير جديد, وعلى الأغلب ستفشل الجولة في قطر كالجولات السابقة, في وقتٍ لا تزال فيه فالمقاومة ثابتة وقادرة, ولن يستطيع أحد التأثير على قرارها وثوابتها, في ظل عجز الإدارة الأمريكية عن إثبات نضج مواقفها, وقبولها بعدم تحقيق أهداف عدوانها, وبالإعتراف بهزيمة ذراعها العسكرية في الكيان الوظيفي في ظل حكومة نتنياهو, وبات عليها الإختيار بين التخلي عن أهدافها أو تأجيلها, لكن في كلا الحالتين, لم تعد تملك أي مبرر للإحتفاظ بـ نتنياهو وحكومته.