إكتظت قاعة المحكمة بالحضور ، وأمام العدد الكبير من الذين يريدون شهود المحاكمة إضطرت قوات الأمن إلى زيادة عدد أفرادها لكي تتمكن من ضبط الأمور، ولم تهدأ الحشود التي ظلت خارج المحكمة ولم تتمكن من إيجاد مكان داخل القاعة ، إلا بعد أن تم نصب شاشة كبيرة في الخارج تنقل وقائع المحاكمة أولا بأول،كانت الحشود تضم كل أصناف الناس الساخطين والغاضبين الذين يطالبون بأقصى عقوبة ممكنة، والمتعاطفين من الذين يطالبون بالرأفة وعدم التشدد مع شخص لايبدو أنه سيئ النية أو خبيث القصد ، وبين هؤلاء وهؤلاء أخرونجاء بهم الفضول، والرغبة في إستكشاف الإتجاه الذي ستؤول إليه الأمور في هذا المشهد الذي لم تعشه المدينة من قبل.
ولكن ما القصة قبل ذلك ؟ الذي حدث أن المدينة شهدت معرضا ضخما للفنون بمختلف أصنافها وشارك فيه فنانون كبار من مختلف المدارس والإتجاهات الفنية ليصل عدد اللوحات المعروضة إلى أكثر 250 لوحة ، ولكن جمهور الزائرين كان يزدحم حول لوحة واحدة، ورغم محاولة القائمين على المعرض إغراء الجمهور وإقناعه بتوزيع إهتمامه على باقي اللوحات المعروضة إلا أن الإزدحام حول اللوحة المذكورة راح يزداد بشكل رهيب، وراحت الأمور تتجه نحو الأسوأ عندما بدأت بعض المحاولات من قبل بعض الزائرين لتمزيق هذه الصورة ، و محاولة الإعتداء بالضرب على صاحبها الذي كان فنانا موهوبا ، ولكنه لم يكن مشهورا كأغلب الفنانين المشاركين لذلك لم يشمله البروتوكول الخاص بإستقبال كبار الفنانين الذي خصصته السلطات المحلية للفنانين المشهورين، ولم يكن مدرجا أيضا على لائحة التكريمات المتميزة التي أعدها قطاع الثقافة والفنون لبعض الفنانين والرسامين ذائعي الصيت ممن تمت دعوتهم للمشاركة في هذا الحدث الثقافي الذي إلتئم بعد جهد جهيد.
حضرت قوات الأمن بسرعة لتتولى السيطرة على الأمور قبل إنفلاتها، وإقتادت الفنان صاحب اللوحة ، وعدد من المشاغبين الذين حاولوا أن يعتدوا عليه بالضرب ،بل وحاولوا تمزيق اللوحة وحتى حرقها على المباشر، وكان فيمن إقتادتهم قوات الأمن بعض الأشخاص من أصدقاء الفنان الذين تولوا الدفاع عنه ضد من حاولوا ضربه أو تمزيق وحرق لوحته، وفي الأثناء كان بعض الأشخاص من هواة التصوير والتوثيق قد إلتقطوا عدة صور للوحة ، بل وإلتقطوا فيديوهات للفوضى التي حدثت حول اللوحة وأذاعوا كل ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي فأنتشرت بشكل مذهل إذ تجاوز عدد المشاهدات العشرين مليون مشاهدة في بضع ساعات ، وهو رقم راح يتصاعد بوتيرة جنونية، وهكذا لم يعد أمر اللوحة المعروضة شأنا محليا خاصا بالمدينة ولاحتى شأنا وطنيا ، بل بات من الواضح أن المسألة خرجت إلى العالمية من أوسع الأبواب، وأصبح الكل تحت الضغط الرهيب لوسائل الإعلام، وخاصة السلطات الأمنية ، والسلطات القضائية التي وجدت نفسها أمام قضية نوعية بلا سابقة حقيقية ، فضلا عن حساسية القضية وإرتباطها حسب البعض بمقدسات المجتمع.
في ظل هذه الظروف المشحونة والمشفوعة بالإهتمام والمتابعة العالمية الواسعة بدأت المحاكمة وسط تساؤلات الكثيرين عن كنه هذه اللوحة التي هزت الدنيا ولم تقعدها، وعن شخصية هذا الفنان الذي بالكاد يعرفه أحد خارج نطاق الوسط المحلي المحدود.
وكان بعض المحامين الشجعان قد تطوعوا للدفاع عن الفنان المتواضع الذي صار مشهورا في ساعات، وركز الدفاع على أمرين ، رسمه لتلك اللوحة وإثبات حسن نيته ، وعن محاولة إنصافه من الأشخاص الذين حاولوا ضربه والإعتداء عليه وحتى حرق لوحته أمام الناس، وكان لهؤلاء أيضا من يمثلهم من المحامين ليكتمل المشهد ويستوي على سوقه في محاكمة من تلك المحاكمات التي يسجلها التاريخ عادة ضمن أوراقه وملفاته الخاصة.
دخل القاضي وكان ذا هيبة واضحة فقد كان معروفا بالحزم والكفاءة والعدل والنأي عن كل ما من شأنه المس بهيبته أو صدقيته، فساد الصمت وإستعد الجميع، وبعد أن أنهى القاضي الإستفسار عن بعض الأمور الروتينية في المحاكمات، وجه السؤال إلى الفنان ، أتدري ما الذي أحدثته وتسببت فيه جراء رسمك لهذه اللوحة ؟ وهنا بدأ بعض المحامين في مرافعاتهم التي جلبت إهتمام الحاضرين داخل القاعة والمتابعين لمجريات المحاكمة على الشاشة الكبيرة خارج المحكمة، وكان يوما مشهودا إستعرض فيه المحامون كل مايملكون من قدرات ومعرفة في القانون والثقافة والدين والتاريخ، إلى درجة أن البعض ممن لم يعرفوا بمضمون اللوحة بعد راح يتساءل ، ما الذي رسمه هذا الفنان المغمور في لوحته هذه حتى يضطر المحامون إلى بذل كل هذا الجهد والتطرق لكل هذه الجوانب من القانون وغير القانون في محاولة لتبرئة موكلهم أو التخفيف من عقوبته على الأقل ؟ ولكن فجأة ساد الصمت الرهيب ، وغلبت الدهشة والحيرة معظم الحضور عندما تم إستعراض اللوحة في قاعة المحكمة ، ولم يسلم أحد من الدهشة والصمت والذهول..وصاح أحدهم ، يا إلهي ، سبحان الله ،كأنه هو، كأنه هو، ولم يصمت إلا بعد أن هدده القاضي بالطرد من القاعة أو حتى محاكمته إن واصل على هذا المنوال.
وقبل إقفال باب المرافعات ، تقرر أن تعطى كلمة أخيرة للفنان المتهم والذي ظل صامتا طوال الوقت وهو يتابع بتقدير وإعجاب ولكن بقلق وتوجس أيضا المحامين وهم يترافعون دفاعا عنه :
ماذا تريد أن تقول ؟ هل لك كلمة أو طلب ؟ قال القاضي قبل أن يضيف ، سأسألك مرة أخرى وأخيرة ، لماذا رسمت مارسمت في لوحتك هذه ؟ وقد لاحظ البعض أن القاضي وهو يطرح أسئلته، كان يظهر عليه وكأنه قد تأثر هو الآخر بما شاهده في هذه اللوحة، قال الفنان : سيدي القاضي لقد قرأت عنه كثيرا ، ودرست كل ماكتب عن ملامحه وصفاته بتدقيق كبير ، و كنت أريد دائما أن أراه بأي طريقة كانت، كنت أتخيله وأرسمه في خيالي لأتمكن من رؤيته ولو من خلال صورة أرسمها في خيالي الهائم في البحث عنه ، وبعد هنيهة من الصمت ، أضاف الفنان : كنت أريد أن أراه حتى في حلمي ، وعندما لم يتحقق لي ذلك ، قررت أن أرسمه لأراه أمامي وليس في خيالي أو في حلم طال إنتظاره، لقد رسمته لأنني أحبه وإشتقت إليه، ولم أعد أقبل بأنه ليس في إمكاني أن أراه..
كان القاضي مثل الحضور في القاعة يتابعون كلمات الفنان في صمت وتأثر لم يعودا خافيين، قال القاضي وهو يغالب دموعه : إذا رسمته حبا له وشوقا إلى رؤيته ؟ نعم سيدي، ليس هناك سبب آخر ، نزل القاضي من منصته وسط حيرة الجمهور وإتجه صوب الفنان وأمسك بيديه وإنكب يقبلهما وهو يقول : إن يدين ترسمان سيد الخلق بهذا الإتقان لجديرتين باللثم والتقبيل، ثم إلتفت نحو الحضور وقال : أنا لن أحاكم هذا الفنان، وإن كان منكم من يستطيع أن يحاكمه فليتفضل ليأخذ مكاني، كان الكثيرون يبكون في القاعة، أما خارج القاعة فقد توزع الناس بين من يبكي وبين من إلتزم الصمت الطويل….
فوزي حساينية- إطار بقطاع الثقافة وكاتب جزائري