إن نوحا نبي من أنبياء الله العظام، وهو نبي من أنبياء أولي العزم.. فأولو العزم هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا الخاتم صلوات الله عليه وعلى آله وعلى جميع الأنبياء.. وهؤلاء الأنبياء (ع) لهم مواقع متميزة في حياة البشرية.. ونبي الله نوح له امتيازات، فمن امتيازاته أنه أبونا الثاني..والقرآن الكريم ذكره في أكثر من أربعين موضعا، حيث تناول مسألة نوح، وما جرى عليه.
ومن خصوصيات النبي نوح عليه السلام، أن الله عز وجل وصفه بأوصاف مدح وثناء منها: اصطفاه على العالمين، وعدّه من المحسنين، وكذلك من عباده المؤمنين، وجعله عبدا صالحا.. فمن الملاحظ أن القرآن يعبر بهذه التعبيرات، التي نعبر بها نحن عندما نرى إنسانا صالحا محسنا ومؤمنا.. فهذه تعابير نطلقها على الناس العاديين، لمجرد أنهم يقومون بأداء فريضتي الصلاة والصيام..والحال أنها تعابير فخمة وعظيمة، تطلق على أنبياء الله أولي العزم.
وعليه، فإننا نستفيد مما تقدم، أنه اذا أردنا أن نعرّف إنسانا، فلنحاول أن ننتقي التعبيرات المطابقة لحالته، لا زيادة، ولا نقصانا.
إن الله سبحانه في هذه الموارد الأكثر من الأربعين، لا يركز على الجهات الخاصة في الأنبياء، مثل: تاريخ مواليدهم، وفي أي بلد.. ولا على الخصوصيات الفردية، مثل: الشكل، واللون.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.. إن هذه الافتتاحية كافية لدروس كثيرة:
الدرس الأول: أن الله عز وجل يأتي بالنبي من ضمن القوم، كي لا يحتج بالبعد النفسي، أو اللغوي، أو العشائري، أو الجغرافي.. ولئلا يعيش الناس، حالة من حالات الطرد التلقائي.. ولهذا نعتقد أن من أراد أن يبلّغ في قوم، فليبلغ في أمته.. حيث أن هناك تقاربا نفسيا وبيئيا وعرفيا، يساعد على إكمال المهمة.
الدرس الثاني: والدرس المهم أيضا في هذه الآية، هو أن شعار الأنبياء هو التوحيد.. فالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله شعاره: (قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا).. وكذلك نوح (ع)، فإنه يخاطب عبّاد الأصنام، ويطلب منهم أن يعبدوا الله عز وجل.. فعبودية الله والتوحيد بالمعنى الساذج، أمرٌ بسيط، وهو أن يعتقد الإنسان بأنه لا إله إلا هو.. ولكن القضية أعمق، فالعبودية لله عز وجل بمعنى اتخاذه إلها يُعبد، ومطاعا يُطاع.. فإذن، إن العبودية والوحدانية لله، ومن ثمارها المهمة (الطاعة) وهي التقوى.. ويلاحظ أن التوحيد إذا طُبّق بحذافيره، يؤدي إلى الاعتقاد بالنبي، والولي، والشريعة، والورع، والتقوى.. فكل هذه البركات تبدأ من عملية التوحيد.
الدرس الثالث: إن النبي نوحا (ع)، عاش الأمرّين من قومه {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}.. فقد لبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، وهذا عمر الدعوة، لا عمر نوح.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}.. ويبدو من بعض الروايات أن حصيلة إنتاج نوح في تسعمائة وخمسين سنة -طولا وعمقا، ليلا ونهارا، وكيفية- أقل من مئة إنسان، وبعض الروايات تصرّح بالثمانين، ولعل أقل من ذلك.. وهنا درس عملي أيضا، ينبغي أن نستفيد منه، وهو: أن الذي يريد أن يعمل لله عز وجل، عليه أن لا يهتم بالنتائج.. فالنتائج عند الله عز وجل، ولعل السعي الواحد المشكور عند الله عز وجل يتعوّض.. فمع كل هذا الجهد، ومع ذلك الصدود، ومع قلة الأنصار، يقول: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.. فالخوف على الناس من علامات الشفقة، والذي يخاف على قومه، يدل على أن هنالك حالة من حالات الارتباط النفسي والمحبة الإجمالية، وإن كانوا كفار.
إننا قد نجد -في حياتنا اليومية- إنسانا مؤمنا بالله عز وجل، والرسول (ص)، ويقوم بالطاعات.. فنرى منه منكرا واحدا، وإذا به يسقط من عيوننا.. فلا نخاف عليه الانحراف، وغضب الله.. ولكن ليست هذه من أخلاقيات الأنبياء، بل أخلاقياتهم أن يكون الإنسان خائفا على العباد، حتى لو بلغوا من الانحراف ما بلغوا.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}.. أي أن عيبك الأول أنك بشر، والحال بأن هذا امتياز لنوح (ع)، حيث يوحى إليه، ويعيش مع الناس بقالبهم، ويكون متميزا بقلبه.
كذلك من سيئات هؤلاء القوم، أنهم يرون قوة الدعوة بقوة الأنصار.. فإذا كان الأنصار كثيرين، ومن الطبقات الاجتماعية الوجيهة، فإن هذا الدين أو هذا الاتجاه الفكري على حق.. وهذا الحالة موجودة إلى الآن، أي أن تقاس الفكرة بأصحاب الفكرة: قلةً، وكثرةً.
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}.. فهم لم يناقشوا فكرة نوح ولا دعوته إلى التوحيد، بل وضعوا أيديهم على الأتباع، وهو أن هؤلاء ضعاف القوم، وقليلون… الخ.
{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}.. قيل هنا في ضمن التفاسير: {َمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، أي لستم متميزين اجتماعيا، وماديا: فلا سلطان لكم، ولا وجاهة لكم.. وبالتالي، فإنهم أدغموا الرسالة الفكرية مع الجانب الاجتماعي؛ أي لو كان لكم فضل وتميز مادي، فإن هذا لعله من موجبات قوة الدعوة.. والحال أن هذه الآيات تريد أن تقول: أن النبي نبيٌّ، وعليكم بدعوته وبفكرته، حتى أن الآية تقول: لا عليكم بكراماته، إذا وجدتم إنسانا ذا اتجاه مستقيم، ودعوة صادقة، وما عليه لو لم يكن له من الكرامات ما له؟..
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ}.. أي إن كنتم تريدون البينة، فأنا على بينة من ربي.. ويقول في آيات لاحقة: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}.. أنا لست صاحب كرامات ودعاوى خارقة، إنما لي فكرة، فادرسوا فكرتي.. لذا فإن التركيز على الجانب الكراماتي والإعجازي للأنبياء والأئمة، من دون التركيز على الفكرة، أيضا من القضايا التي لا نوافق عليها.. فدائما نحاول أن نبين المنهج الفكري للنبي وآله.. نعم، إن هذه الكرامات دعم لفكرتهم، لا أنها أدلة.
وأما بالنسبة لـ{َلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}؛ فكيف نعتقد أن الرسول، يعلم الغيب إجمالا، وهو ما نشاهده في الأحاديث؟.. فالجمع بين هذه الآية والواقع، أن الآية في بيان مقام العلم الاستقلالي، والعلم الأصلي.. فالقرآن الكريم ينفي علم الغيب عن البشر تارة، ويثبته تارة.. فمثلا: الإحياء والإماتة، إن القرآن الكريم ينسبها لله عز وجل تارة، وللبشر تارة أخرى.. يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}.. وفي آيات أخرى ينسب إلى المسيح الإحياء بإذن الله عز وجل، وينسب الإماتة إلى ملك الموت.. رغم أنه يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}.. فإذن، أمات وأحيا، استقلالا.. وعيسى وملك الموت، أحدهما أحيا، والآخر أمات، قبض الروح بإذنه سبحانه.. وكذلك نفى العلم بالغيب حيث يقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}.. ومع ذلك يقول في آية: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.. وعليه، فإن الآيات تنفي وتثبت: تنفي استقلالا، وتثبت بإذن الله سبحانه وتعالى.
{قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.. لقد طلبوا من نوح، أن ينزل ربه عليهم العذاب.. ولكن في مقام الجواب، انظروا إلى شفقة نوح أيضا حيث {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}.. فقد جعل العذاب معلقا على مشيئة الله سبحانه.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.. فتسعمائة وخمسون سنة، وهو يدعو قومه: ليلا، ونهارا.. ولكن إذا لم تكن الأرضية مهيأة، وإذا كان الطرف المقابل لا يريد أن يهتدي، فلا خير فيه.. والقرآن الكريم ينسب الغواية إلى الله عز وجل، فكيف الله يغوي؟..
يقول علماء الكلام: أن الغواية والإضلال الابتدائي، منهيٌّ عن الله عز وجل.. فليس من شأن الحكيم والرحيم أن يغوي إنسانا، أو يضله.. إلا إذا كان عقوبة، كأن يكون -مثلا- قد عمل عملا، من عدم الاستماع للشرائع، أو لدعوات المصلحين.. فالله سبحانه يجعله في طريق الغواية.. والفرق بين الإضلال والغواية: الغواية مرحلة أرقى من الإضلال؛ فمثلا: إنسان ضلّ الطريق، أي أضاع الطريق، وإلا فإن الهدف في باله، فهو لم ينسَ الهدف، ولكنه ضل الطريق.. فإذا وصل الإنسان إلى درجة نسي الهدف أيضا.. أي لا هدف له في الحياة، فإن هذا الانسان (غوى) وقع في الغواية، لأنه لا يحمل هدفا، فهذا الإنسان لا أمل في هدايته.. والإنسان الضال من الممكن في يوم من الأيام أن يرجع إلى الطريق؛ لأنه يعيش حالة الهدفية.. فهناك شيء في باطنه، يدعوه إلى غاية معينة.. ولذا، فإنه إذا حاولنا أن نهدي إنسانا، فلنعلم أن الأمر أولا وأخيرا بيده، وبيد رب العالمين.
كذلك من المحطات الملفتة في حياة النبي نوح (ع)، أن الله عز وجل بعد أن رأى أن القوم تمت عليهم الحجج، قال لنوح: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}.. إن البعض يستفيد من هذه الآية كإشارة خفية للشفاعة، أي يا نوح!.. أنا كَربّ، فقد قررت الإهلاك، ومن الآن فصاعدا لا تتوسط بيني وبين قومك.. وهذا أيضا كمال الشفقة، حيث أن الله عز وجل يرى نوحا في مظان الشفاعة.. ومن الممكن بعد صدور الأمر الإلهي بالهلاك، أن يقول: يارب!.. ارفق بقومي، فيقول: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}.
هذه ثمرة تسعمائة وخمسين عاما {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}!.. أي يا نوح أنت تحت إشرافنا أينما كنت، وهذه السفينة ستبتلى بالطوفان، ولكن أنت بأعيننا.. فهنيئا لمن وصل إلى هذا المقام!.. مقام أن يكون بعين الله عز وجل: في حلّه، وترحاله.. وفي شبابه، وكبر سنه.. وفي دنياه، وآخرته.. عندئذٍ ماذا ينقصه إذا كان بعين الله عز وجل؟.. وليكن في أحلك الظروف، فهو في أحسن الحالات.. (إلهي ماذا وجد من فقدك؟.. وماذا فقد من وجدك)؟..
{احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}.. والتي استثنيت من أهل نوح، وغرقت مع الغارقين، هي زوجته.. فزوجته خانت زوجها بنص القرآن الكريم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}.. طبعا هنا الاعتقاد بأن الخيانة ليست عائلية وأسرية، فالأنبياء منزهون عن ذلك.. ولكن الخيانة هنا بمعنى الانحراف عن خط الأنبياء، والانحراف عن الخط خيانة.. فهذه المرأة التي عاشت مع النبي مصيرها مع عبّاد الأوثان.. وليس هناك نص يدل على أن امرأة نوح كفرت بالله، ولم تؤمن بالتوحيد، ولكن الخيانة لأمور أخرى.. فالقرآن الكريم استعمل الخيانة، ولم يبين هذه الخيانة.. إن الانحراف عن المنهج هو خيانة من الخيانات، وان تظاهر الشخص بأنه في ضمن ذلك المنهج.
{وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. نحن عادة نسمي في أول العمل ابتداءً، ثم في أثناء العمل ننسى نسبة العمل إلى رب العالمين، ولكن نوحا قال: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}؛ أي في أول العمل، وفي ختام العمل.. فهل أحد منا ذكر ربه في ختام العمل، عندما وصل إلى الهدف؟.. إن الإنسان عادة ينسى ربه إذا حقق هدفه في الحياة.. فإذن، شعارنا جميعا في كل الأوقات: بسم الله مجراها ومرساها، في أول العمل، وآخر العمل، وعند الإقدام، وعند النجاح.. علينا أن نجعل الإقدام محفوفا بذكره، وموصولا به جل جلاله، وعمّ نواله.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}.. لاحظوا شفقة الأبوة، لم يقل: دعا.. ولم يقل: قال.. وإنما نادى؛ فيبدو أن نوحا رفع صوته بهذه الدعوة، لنجاة ابنه من الطوفان.. ولكن انظروا إلى سوء العاقبة: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.. إن نوحا سمع من الله تعالى وعدا، قال: أركب في هذه السفينة من كل زوجين، وأركب أهلك.. فظن أن هذا الخطاب ينطبق على ولده {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}.. إن نوحا يستحق مقام العزم، لأدبه مع رب العالمين.. إنسان يرى ولده في حال الغرق!.. وأي غرق؟!.. غرق مع الكافرين!.. فمن الطبيعي أن الإنسان يقول: يا ربي، أنقذ ولدي!.. يا ربي!.. أسألك بأسمائك، وبأحب العباد إليك، أن تنقذ ولدي مما هو فيه!.. ولكن نوحا قام بإشارات.
{إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}.. فهذا أدب ويا له من أدب!.. من هذا النبي الذي يرى ولده يغرق.. ومع ذلك يتكلم في ما يطابق الأدب في خطابه مع الله عز وجل.. فرغم أنه كان مؤدبا، ولم يذكر أمرا قبيحا يعاتب عليه.. ولكن انظروا إلى التعامل الدقيق من رب العالمين مع عباده الصالحين!.. {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.. يقول: هذا الولد ليس إنسانا فاسدا فحسب!.. بل هو عمل غير صالح، {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}.. ثم أخذ يناجي ربه مناجاة التائبين الخائفين فقال: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}.. أي يا رب اعف عني، فأنا سوف لن أطلب منك ما ليس لي به علم.
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي}.. هذه الآية من الآيات الموزونة وزنا موسيقيا في القرآن الكريم، وعندما تُقرأ هذه الآية من قِبل من يتقن تلاوة القرآن الكريم، تكاد تنتاب الإنسان حالة من الطرب المعقول.. {وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.. نعم، هذه كانت عاقبة القوم الذين لم يؤمنوا بالله تعالى.
الدرس الأخير من حياة نوح (ع): {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.. كل من على وجه الأرض ماتوا جميعا، ولم يبق سوى سفينة صغيرة، فيها من كل زوج اثنين.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ}.. نعم، هذه البشرية اليوم، وهذه الصور من الحيوانات والطيور وما شابه ذلك.. كل ذلك من نسل ما حمل في سفينة نوح.
فإذن، إن أراد الله عز وجل أن يبارك، فهكذا يبارك.. يبارك ظاهرا في كثرة النسل، والبشر، والحيوانات، والطير، من تلك السفينة.. ويبارك باطنا، بأن جعل النبوات والأوصياء، من ذرية نوح عليه السلام.. يذكرنا هذا بذلك الحديث القدسي: (إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت.. وليس لبركتي نهاية).. أي إذا باركت في وجودٍ، أو في إنسانٍ، أو في شيءٍ، أو في سفينة، وفيما حُمل في سفينة؛ فهذه هي البركات.. صبر تسعمائة وخمسين سنة، صباحا ومساء.. ولكن انظروا إلى هذه العاقبة الحميدة!.. العاقبة التي خُلدت في حياة البشرية، فهو ثاني الآباء، ومنشأ سلسلة بشرية، بل حياتية على وجه الأرض.