لم يعد العالم هو نفسه بعد أن عادت روسيا قطبا مضادا مهددا للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وربما تشكل قطبا جاذبا للكثير من الدول “المستحمَرة” والمستغلَة والتابعة، للخروج من فلك الولايات المتحدة، فضلا على أن تكون ملاذا للشعوب المقهورة والمضطهدة في العالم بأسره. إن عودة روسيا الواثقة نحو إجبار الغرب على احترامها وسماع صوتها في القضايا والصراعات الساخنة على الساحة الدولية قد يقود إلى شق طريق ملموس أمام عودة هيبتها الجدية في مواجهة الغرب الرأسمالي المتوحش والجشع.
حاولت الولايات المتحدة تطويق ومحاصرة روسيا وإبعادها عن فضاء أوروربا من خلال عملائها، وحشدها لقوات ومعدات حلف الناتو، بهدف تحويلها من موقع المتحدي إلى موقع التخلف والخضوع والتبعية. وربما قد يعني هذا مقدمة لاحتلال روسيا، لكنه وهم سقط مع الزمن، حين حققت روسيا الإنجازات الكبرى والنوعية، على صعيد صناعة الأسلحة وإعادة بناء قوة الجيش الروسي وأنعشت الاقتصاد الذي يوفر مقومات الصمود أمام الغرب. خاصة بفضل قوتها الهائلة في سوق النفط والغاز والمعادن والحبوب. كل هذا أعاد الاعتبار للدولة الروسية وهيبتها العالمية التي تلاشت في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسن.
من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد تيقظ مبكرا لأطماع ونوايا الولايات المتحدة وحلفائها الكبار والصغار، وهذا ما عبر عنه منذ العام 2007في مؤتمر ميونخ للأمن ، حين انتقد علانية السياسات الأمريكية واستراتيجية حلف الناتو عبر خلق قواعد عسكرية مدججة بالسلاح لاستهداف روسيا ومحيطها المباشر بهدف تفكيكها كما فُكْك الاتحاد السوفييتي عام 1991، مؤكدا عدم قبوله المساس بوحدة أراضيه ورفضه لتموضع قوات وأداوت حلف الناتو داخل الفضاء السوفييتي السابق.
مع بدء العملية الروسية في أوكرانيا بتاريخ 24شباط\ فبراير 2022، انتهى الزمن الذي لم يعد فيه هناك من يقول للولايات المتحدة: لا، الأمر الذي ينطوي على جعل روسيا ليست دولة متحدة وحسب وإنما أصبحت قطبا مهددا للولايات المتحدة ومصالحها في منطقة أروربا والعالم بأسره، فضلا عن الضعف النسبي للولايات المتحدة بعد تراجعها وانسحابها من ورطة العراق وأفغانستان، وتخليها المضطرد عن حلفائها في الخليج العربي وسحبها صواريخ (باترييوت) من الأراضي السعودية. بذلك يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد أعاد صناعة التاريخ بوقف استباحة الأراضي الأوكرانية وكبح جماح حلف الناتو بقيادة أمريكا التي ورطت ألعوبتها الرئيس الأوكراني زيلنسكي، خلال بيعه الأوهام بأن حلف الناتو سيقاتل عنه، في حين لم تدرك أمريكا أن الرئيس الروسي لا يتعاطى مع الحلول الوسط التي تتعارض مع مصالح وأمن وحدود روسيا. تعود روسيا وتعيد الاعتبار لدورها التاريخي والطبيعي على الساحة الدولية كقوة دولية مهاجمة، وتعيد عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء أي ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بهدف صوغ العلاقات الدولية وتأطيرها وفق استراتيجية هادفة إلى بدء نهاية زمن أحادية القطبية وأبدية تحكم أمريكا بمصير الشعوب والدول، وأن العالم مقبل على تغييرات محتملة للتحالفات والاستراتيجيات وموازين القوى الجديدة باتجاه عودة التوازن الدولي نحو عالم عادل لصالح الشعوب المقهورة والمضطهدة والبشرية جمعاء.
ما يجري أكبر من أوكرانيا
يلاحَظ بعد انسحاب أمريكا من العراق وأفغانستان استدارتها المتوحشة نحو مناطق الشرق الأقصى وتحديدا اتجاه جنوب شرق الصين، بما تمثله هذه المناطق من أهمية جيو-استراتيجية وفوائد اقتصادية وتفوق تجاري واضح، علاوة على أنها أسواق جديدة تضم دولا وازنة ونافذة ومؤثرة كالصين واليابان والهند وأندونيسيا. وقوى متوسطة النفوذ مثل الكوريتيْن وفيتنام، فضلا عن تنامي وتطور القوة العسكرية للصين التي قد تهدد أمريكا ومصالحها في المنطقة.
هكذا نشطت الولايات المتحدة الأمريكية واستدارت بوصلتها المتوحشة نحو الصين، وأقامت تحت قيادتها حلف ( AUKUS) الذي يضم بريطانيا واستراليا، والذي يعني إقامة تحالف جديد من وراء الاتحاد الأوروربي وتحديدا فرنسا وألمانيا غداة إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون عن أن حلف الناتو مات سريريا، ويعبر عن متغيرات جديدة للسياسات الأمريكية في العالم، بحيث نجد البوارج البحرية لا تبارح قبالة الصين، في الوقت ذاته حاولت أمريكيا محاصرة وتطويق وربما احتلال روسيا عبر إعادة تجديد هندستها لهيكل الأمن في القارة الأوروربية وخاصة لدول شرق أوروبا المجاورة لحدود روسيا متجاهلة الأمن القومي الروسي ورافضة ورقة الضمانات الأمنية الروسية. إن استراتيجة الولايات المتحدة تقوم على أن روسيا والصين ومحيطهما المباشر مناطق نفوذ محتملة لما تمثله بالدرجة الأولى من أهمية جيو-استراتيجية مرتبطة ارتباطا وثيقا بأنهما قلب الاقتصاد العالمي من جهة، ومنافس عسكري حالي ومُهدد مستقبلي.
وعليه نجد أمريكا تبيع الأسلحة لدول تخاف من الصين، ولها خلافات حدودية معها، أمثال اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، فضلا عن مشكلة تايوان، الأمر الذي يدفع الصين مستقبلا بعدم السماح بدخول أمريكا وحلف الناتو في فضاء جغرافيتها، ولتؤكد أنها ليست أوروربا العجوز، ولا دولة من الدول العربية. وستثبت للعالم أنها دولة عظيمة وستتخطى الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا وفي علاقاتها الدولية، وستساهم في إعادة التوازن الدولي.
بالتالي إن تصدي روسيا المباشر لاستراتيجية أمريكا العدوانية بالبدء بالعملية العسكرية في أوكرانيا وقبل ذلك ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، أكبر وأشمل من التدخل لإنقاذ سكان إقليم دونباس من نازية وعنصرية الجماعات القومية الأوكرانية، وإنما تشكل بداية التصدي الجدي لأطماع ونوايا الولايات المتحدة واستراتيجية حلف الناتو اتجاه روسيا ومحيطها الأمني المباشر، هذه العملية العسكرية الواعية تثبت جدية الدولة الروسية ورئيسها الشجاع، الأمر الذي أصاب حلف الولايات المتحدة بالهستيريا من خلال فرض عقوبات اقتصادية وإعلامية غير مسبوقة، والتي ستعود ارتداداتها السلبية على اقتصاد القارة الأوربية، في حين تبقى أمريكا كعادتها بعيدة عن مسرح المعارك والمواجهات وتورط الشعوب والدول وتبقى هي المستفيد الأول.
إن إدراك حلف الولايات المتحدة للمغزى الحقيقي للعملية العسكرية الروسية وقوة وتحدي روسيا لهم، يؤشر وبشكل ملموس بأنها لم تعد تتحكم عمليا بمصير الشعوب والدول، ووقائع الأحداث ثتبت أنها أخطأت في تقدير قوة ورد فعل روسيا اتجاه أطماعها ونواياها.
تصور استراتيجي للمستقبل
باتت البشرية اليوم على أبواب نظام عالمي جديد متعدد الأٌقطاب من خلال التقارب غير المسبوق بين روسيا والصين، والذي قد يؤدي إلى تشكيل تحالف أوسع يعتبر ايذانا ببداية نهاية زعامة الولايات المتحدة للعالم وتدخلها السافر في شؤون البلاد والعباد، والتطاول على سيادة الدول. هذا التغيير نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قد يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات متهورة تخلق وضعا عالميا قابلا للانفجار والاشتعال قد يؤدي إلى احتمالية نشوب مواجهة تهدد الاستقرار الاستراتيجي العالمي. لذا نجد أن شبح الخطر النووي قد أطل برأسه، الأمر الذي يؤشر على احتمالية وقوع الحرب العالمية الثالثة بفعل النزعات العسكرية المتأصلة لأمريكا والتي تميل نحو الحرب والعدوان، الأمر الذي يتطلب بلورة الاستراتيجيات والسياسات التحالفية على المستوى العربي والإقليمي والدولي، والدعم والتضامن مع روسيا كقطب مضاد للولايات المتحدة بديلا عن أحادية القطب الإمبريالي الأمريكي وفرض أسس نظام عالمي جديد قائم على التوازن الدولي والعدالة والأمن والاستقرار للبشرية جمعاء.