بقلم: د.عادل بن خليفة بالكحلة-(باحث إناسي، الجامعة التونسية)
في الدول التي أصابتها جائحة الكورونا في موجتها الأولى، تُعتبر كُوبَا الأقل إصاباتٍ.
ويعود ذلك إلى نظامها الاقتصادي ونظامها الصحي الأكثر نجاحًا في العالَم. وكُنا قد درسنا هذين النظامَيْن في كتابنا: الاقتصاد الاجتماعي التضامني في سياق الحركة الاجتماعية: حالات كوبا وفينزْوِيلاّ ونيكارغوا وبوليفيا والأورُغْوَاي[1].
-
معالم الانتصار:
فقد تبين أن الكُوبيين البالغ عددهم 11 مليونا، «أقل عرضة للإصابة بالفيروس 24 مرة مقارنة بسكان الدومينيكان، وأقل عرضة للإصابة به 27 مرة من المكسيكيين، و70 مرة مقارنة بالبرازيلييين»[2]. ففي الوقت الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية أمريكا الجنوبية بؤرة جديدة للوباء، كانت كوبا استثناء، وكانت الأورُوغْواي الاشتراكية اليسارية تاليةً لها في هذا السباق.
فمنذ بداية انتشار الكوفيد_19 أواخر 2019، لم تُسجل الحكومة الكوبية «سوى 1983 إصابة بالكورونا، من بينها 82 حالة وفاة. أما حالات الشفاء فبلغت 1734، مما يعني أن أكثرية المصابين تماثلوا للشفاء»[3]. وفي أواسط يوليو 2020 كان إعلان عدم تسجيل أي حالة إصابة منذ 4 أشهر.
-
ماهي عوامل الانتصار الكوبي؟
كُنا قد بيّنا في كتابنا أن النظام الصحي الكوبي من أكثر الأنظمة الصحية نجاحًا في العالم. ومن معالِم ذلك وُجود 100 ألف طبيب من جملة السكان، أي بنسبة 9 أطباء لكل 1000 مواطن، إضافة إلى أكثر من 485 ألف من العاملين في الخدمة الصحية. وهي دولة السياحة الطبية، بمستشفياتها عالية الجودة التي تقدم «خدمات طبية احترافية بأسعار معقولة»[4]. والمناخ الاستوائي للبلاد مناسب للمرضى «الذين يتعافون من العمليات الجراحية، والذين يخضعون لعلاجات الإدمان»[5]. إنها بلاد النظام الصحي القوي، القائم على مبدإ «الوقاية خير من العلاج» حيث الجميع يحصلون على الرعاية الصحية الشاملة.
أمّا عن العوامل المباشرة في الانتصار الكوبي على هذه الجائحة، وغيرها من الجوائح، فيقول وليام ليوغراند، المحاضر في الجامعة الأمريكية بواشنطن: «لا يوجد بلد آخر في نصف الكرة الأرضية يفعل أي شيء يقترب ممّا تفعله كوبا» في مواجهة الكورونا، مبيّنا أنها «ترى التنظيم الكامل لنظام الرعاية الصحية يجب أن يكون على اتصال وثيق بالسكان وتحديد المشاكل الصحية عند ظهورها، والتعامل معها على الفور»[6].
ويشدّد وليام ليوغراند أن التعرّف السريع على الحالات ومتابعة الاتصال، والحجر الصحي، الطرق الوحيدة لاحتواء الفيروس في حالة عدم وجود لقاح. والنظام الصحي الكوبي مناسب لتنفيذ سَوْق (استراتيجية) الاحتواء تلك»[7].
أغلقت كوبا حدودها في وقت متأخر عن معظم الدول الأخرى بالمنطقة. ولكن منذ أواخر مارس، حين أغلقت حدودها، بدأتْ حَمْلة قوية للتصدي للفيروس. فقد أمرت وزارة الصحة عشرات الآلاف من أطباء الأسرة والممرضات وطلاب الطب «بالفحص النشيطلجميع المنازل في الجزيرة، بحثا عن حالات الكوفيد-19 كل يوم»[8]. ويعقب ذلك تتبع الحاملين المحتملين للمرض في منازلهم «وعزل المرضى ذوي الحالات المشتَبَه بها ومخالِطيهم»[9].فقَبْل تسجيل أول حالة مرض يوم 11 مارس بـ3 أشهر كانت وزارة الصحة بالتعاون مع الجيش، قد «جهّزَتْ بالفعل خطة للتعامل مع الجائحة»[10]
في يناير، كان إعداد خطة الوقاية والسيطرة، وتحضير المرَافق الطبية وتوعية الناس، كما قامت السلطات «بإغلاق الحدود وفرض إجراءات المراقبة وتكثيف الفحوصات، ووضع المستشفيات العسكرية في خدمة المصابين»[11]، فللجيش ألوية مختصة في التعامل مع الأوبئة الكبرى.
وقبل أوّل حالة يُبَلَّغ عنها، كانت الوزارة قد أرسلتْ فِرقًا من الأطباء والممرضين وطلاب الطب «يبحثون عن أعراض الجهاز التنفسي، وتوعية الجمهور بالمرض، وأرسلت الحالات المشتَبه بها إلى مراكز العزل التي تديرها الدولةـ وتتبّعت جميع مخالطاتهم الأخيرة»[12].
على مستوى المقاومة الدَّوَائية ألمحنا في الكتاب المذكور أن كُوبا تأمل زيادة إنتاجها وصادراتها في مجال الصيدلة الحيوية. وقد أعْلنت وزارة الصحة في مايو 2020 أنها استخدمت «عقارين من إنتاج صناعتها في مجال التِقانة الحيوية أدَّيا إلى خفض كبير في عدد الوفيات»[13]، بعد أن قلَّصا الالتهاب الشديد في الحالات الخطيرة من الكوفيد-19.
لقد أنتجَتْ كُوبَا في هذه الفترة لقاحات «على أساس جُزَيْئاتٍ تُشْبِه الفيروس، لها فوائد بالنظر إلى القدرة على تَقوية نظام المناعة وتنشيطه»[14]. وهذا ليس بمفاجئ إذ أن كُوبا تُنتج «80% من اللقاحات التي تُستخدَم في إطار برنامج التحصين الوطني»[15]،وهي تبدو في الطريق نحو «تسجيل إنجاز جديد في المعركة ضد وباء كورونا»[16]. فقد أعلن العلماء الكوبيون في الـ18 من تشرين الثاني 2020 «أن لقاح سوبيرانا1 الكوبيَّ الصنع، سيكون على الأرجح، جاهزًا للاستخدام في شباط المقبل، إذا أثبتت التجارب السريرية فعّاليته»[17].
-
2. كوبَا تقاوم الكورونا خارج حدودها:
كانت تونس تسفّر إلى ليبيا وسوريا عددًا هامًّا من شبابها غير المؤهل مدرسيا ومعرفيا ومهنيا وأخلاقيا ودينيا، لنشر القتل والدمار هناك، بينما نجد كوبا تُسفِّرُ عددًا هامّا من الأطباء والممرضين إلى عدّة دول لمساعدتها على مقاومة الكورونا. فكان إرسال «أكثر من 1200 من الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية إلى نحو 22 دولة في مختلف القارّات، من بينها أوروبا وإفريقيا»[18]، مرسلة ألوية إلى غينيا بيساو والمارتينيات وأنغولا[19] ولاحظنا أن عدة دول، أبرزها روسيا، «تتعاون مع شركات كوبية لإنتاج لقاح الكوفيد-19»[20].
وهي تبادر بإرسال فريق من الأطباء إلى أكثر الدول تضررًا (إيطاليا) مع طائرة مساعدات «محمّلة بـ45 طنا من المواد الطبية»[21]. وقد تعلق ذلك خاصة بإقليم لُمْبَارْديا بـ36 طبيبا و15 ممرضا، الإقليم الأكثر تضررا هناك، بمعالجة 516 مريضا. وهذا ليس بمفاجئ، إذ عوَّدتنا كوبا على ذلك منذ بداية تأسيس نظامها اليساري[22].
وهي تتعاون مع إيران[23] لصنع لقاح، يبدو في نهاية شهر يناير 2021على أبواب تحققه[24]، وهذا ما يجعل البلدين متعاضدين ضد العقوبات الأمريكية التي تمنع شركات الأدوية الأجنبية من التجارة معهما.
وبذلك تفك جزيرة كوبا عزلتها التي فرضتها عليها الجغرافيا (وسط القارّة الأمريكية)، والإجراءات الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيس «كوبا الأبيّة»، كما سمّاها مرسال خليفة.
ولذلك استشاط وزير الخارجية الأمريكي غضبا، ليتّهم كُوبا بأنها «تستغل جائحة الكورونا» لكي تفك عزلتها[25]، وقد انتقد الدول التي استعانت بها، «مذكرّا» إياها بأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مازال «يضع كوبا على لائحة الإرهاب».
وماذا تفعل دول «صديقة» للإمبريالية الأمريكية كقطر وإيطاليا، إذا وجدتْ نفسها أمام هذا الخطر دون حماية أمريكية ولا أوروبية-غربية، سوى الواقعية التي تحتم عليها اللجوء حتى إلى كُوبا، وبذلك نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أصبحت في عزلة عالمية، لا كوبا ومثيلاتها، خاصة مع انشقاق الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالميةوالمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم.
خاتمـة:
كفانا عجْبًا وغرورًا، بادبارنا عن الدول التقدمية- السيادية مثل كوبا وفنزويلا وبوليفيا وإيران والجزائر وجنوب إفريقيا!! ولنحاول بناء سيادتنا الاقتصادية والصحية والسياسية والثقافية بتوحدنا العربي والعالمي- الثالثي.
مراجع
[1]راجع: بالكحلة (عادل)، الحركة الاجتماعية حاضنةً للاقتصاد الاجتماعي التضامني، منتدى التفكير في الحراك العربي، تونس 2020 (الكتاب موجود في صفحة الباحث).
[2] سْكايْ نيوز، «كوبا تقدم نموذجا ناجحا لاحتواء فيروس كورونا… ماذا فعلت؟»، 8 يونيو 2020، 09.29 بتوقيت أبو ظبي.
[3] سْكاي نيوز، «بلد الرعاية الصحية.. كيف حققت كوبا معجزة أمام الكورونا؟»، 28 مايو 2020، 23.51 بتوقيت أبو ظبي
[4] م. س.
[5] م. س.
[6]«كوبا تقدم نموذجا…»، م. م.
[7] م. س.
[8] م. س.
[9] فْرانْس 24، 19 يوليو 2020.
[10] سْكايْ نيوز، «بلد الرعاية الصحية….»، م. م.
[11] سكاي نيوز، م. س.
[12] قناة العالم، «يجب على دول العالَم تعلم استراتيجية كوبا لمواجهة الكورونا»، 17 سبتمبر 2020.
[13] سْكاي نيوز، «كوبا تقدم نموذجا…»، 8 يونيو 2020.
[14]DW ، «”صُنع في كُوبا: لقاح جديد ضد فيروس الكورونا»، 22/8/2020
[15]DW، مرجع سابق.
[16] جريدة الأخبار، بيروت، «كوبا تطوّر لقاحها ضد الكورونا، على طريق السيادة الطبية»، 26/8/2020.
[17] جريدة الأخبار، بيروت، م. س.
[18] سكاي نيوز، «بلد الرعاية الصحية….»، م . م.
[19] سانا، م. م.
[20]DW ، «صُنع في كوبا…»، م. م.
[21] فْرانْس 24، 23/03/2020، نشرة أنباء الساعة 20.
[22] راجع: بالكحلة (عادل)، الحركة الاجتماعية حاضنةً للاقتصاد الاجتماعي التضامني، منتدى التفكير في الحراك العربي، تونس 2020 (الكتاب موجود في صفحة الباحث).
[23] مازال اليسار التونسي( وبعض القوميين التونسيين مترددا في التحالف مع الجمهورية الايرانية، بل مرتابا احيانا، على عكس يسار امريكا الجنوبية والصين الشيوعية اللذين عمقا العلاقة بالايرانيين منذ 1979.
rt com,9/1/2021 ,18 :45 [24].aralic
[25] قناة الميادين، 30 نيسان 2020.