ما حدث في تونس كان مسارا طبيعيا لإغلاق صفحة ما يمكن تسميته بـ «ربيع الإخوان » الذي أوصلهم إلى الحكم بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 والمعلوم أن حركة النهضة حاولت الإستفادة قدر الإمكان من التحولات الدائرة آنذاك للوصول الى الحكم ، بعد أن خرج الشعب التونسي للمطالبة بالتغيير والكرامة والعدالة وانهاء صفحة الفساد ولكن رياح الديمقراطية نفسها كانت تحمل معها تحديات عالية ، فقد فشلت المنظومة السياسية والتي حكمت طيلة عشر سنوات في جرّ سفينة تونس الى برّ الأمان ولم تتمكن من الإنصات لصوت الشعب ومطالبه، فإرتفعت البطالة وتدهورت المؤشرات المالية والاقتصادية وعادت المحسوبيات مع اختلاف الحاكمين ، وتوقفت عجلة الإنتاج وتراجعت نسب النمو مع ارتفاع في نسب التضخم وغلاء المعيشة، بل ان الطبقة الحاكمة أدخلت البلاد في لعبة محاور إقليمية ودولية وجعلتها جزءا من الصراع الدائر بين منظومة الحكم والمعارضين لها، وغيرها من المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، وغاب عن هؤلاء بأن تونس لها تاريخ استثنائي ولها خصوصية..
لكل أزمة لابدّ من حل أو هذا على الاقل ما يفترض في كل الصراعات والازمات مهما طالت والحل قد لا يروق دوما للاطراف المعنية التي تحركها حسابات الربح والخسارة خاصة عندما يتعلق الامر بالمعارك السياسية الطاحنة وعمليات كسر العظام التي تفتقر للحد الأدنى من الاخلاق والقيم السياسية فلا تستسيغ بالتالي الحلول التي يمكن أن تحفظ ماء الوجه أو ما بقي منه وتتجه الى مواصلة الهروب الى الأمام مع كل ما يعنيه ذلك من سيناريوهات غير محسوبة وخيارات عنوانها “عليّ وعلى أعدائي”… طغمة الفساد المستفيدون من عشريّة الريّع الحزبي والسياسي من المفروض أن يحترموا أنفسهم و يحترموا الشّعب بدل الإصرار على تأزيم الوضع و الدفع نحو العودة إلى العشريّة السّوداء التي لم يجني منها الشعب سوى التهميش و الإذلال و التفقير والتجهيل وتفكيك الدولة والفساد.. لا يمكن أن تبقى الدولة أسيرة زمرة فاسدة كانت تتقاسم ثروات البلاد وكأنّها ميراث ورثوه عن أجدادهم وآبائهم..
على الرغم من ضخامة المشكلات الحالية التي يواجهها الاقتصاد التونسي فإنه لابد من القول إن هذه المشكلات ليست وليدة اللحظة بل هي نتاج طبيعي للسياسات الاقتصادية التي إنتهجتها الدولة التونسية على إمتداد عقود طويلة ، فضلاً عن تراكمات طويلة من سوء الإدارة وإنعدام الشفافية وغياب سياسات المحاسبة والمساءلة وتفشي الفساد الأمر الذي أفضى إلى كل ما يعانيه الاقتصاد التونسي في هذه المرحلة من خراب وعجز بالمعالجة وصل لحالة من اليأس، السبب الأول و الأوحد و الوحيد فيه هو الطبقة السياسية التي تحكم البلاد منذ 2011 و تتحمل مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية و تفاقم الأزمة من سنة إلى أخرى بسبب عدم استقرارها، وخضوعها للتجاذبات السياسية والحزبية.. إنّ تنفذّ العصابات والمافيات على المنظومة السياسية والحزبية وإخضاعها لمزيد تحصيل الربح الجشع على غير وجه حق، وحصيلة الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي أنتجته سنوات حكم هذه المنظومة، كل هذا وغيره أدى للعجز عن التفكير في المخارج من هذا السرداب المظلم قبل 25 جويلية 2021، هو في الحقيقة سرداب الانتقال الديمقراطي الأجوف، المزيف والخالي من مطالب الثورة ، وهو كذلك سرداب الديمقراطية الشكلية المعلّبة في الشركات العابرة للقارات والخالية من مقومات العدالة وسيادة القرار الوطني،..
الفساد في العشريّة السّوداء كان ضارباً أفقياً وعامودياً وعرضياً وطولياً ، هذا الخراب العظيم يجعلنا نتسائل هل أنّ الشعب بغالبيته كان فاسداً و هو الذي أوصل هذه الشريحة المتعفّنة من المسؤولين الفاسدين المفسدين إلى سدة الحكم ، أم الفاسدين هم من أفسدوا الشّعب بالمتاجرة الرخيصة.. لا ينفع السؤال والتساؤل هنا أنّ هل الشعب هو من نقل فساده الى الطبقة الحاكمة فعلياً فانتخب مسؤولين فاسدين أم أنّ العكسَ هو الصحيح وأنّ المسؤولين الفاسدين هم من نقلوا عدوى فسادهم إلى العامّة من الناس لكي يثبّتوا قواعدهم المتينة الضاربة في الأرض كالجذور ولكي يتمكّنوا بالتالي من الاستمرار في فسادهم وإفسادهم أكثر فأكثر ، فالأمر واضح والنتيجة واحدة وهي أنّه لا يمكن لطبقة سياسية فاسدة أن تحكم شعباً على مدى سنوات عجاف؛ فجاء يوم الحسم نتيجة تراكمات من الاحباطات في 25 جويلية انتفض الشعب و أماط الغطاء عن طبخة فاسدة تعفّنت وانتشرت رائحتها الكريهة معلنة سقوط منظومة كاملة استغلت الديمقراطيّة الوهمية لتحقيق أهدافها السياسيّة وللتموقع على الساحة ومن ثم الإستحواذ على الحكم و السلطة و على الدولة بكل أجهزتها وعلى كل آلياتها وأدواتها.. اليوم الإرادة الشّعبية في مواجهة زمرة فاسدة كانت تتقاسم السلطة و ثروات البلاد و لا يعترفون بحق الشّعب في أن يحكم نفسه بنفسه ويعتبرون أنهم وحدهم يملكون الحق في السلطة و الحكم ومن حقهم أن يفرضوا أفكارهم بالقوة على الشّعب.. فإن كان ما حدث في 25 جويلية إنقلاباً فهو إنقلاب شعبي لتخليص تونس من مختطفيها و إن كان إنقلاباً فهو إنقلاب على منظومة الفشل الذّريع التي أفقرت الشعب و دمّرت البلاد..
لم يُزح الشعب النخبة الفاسدة من السلطة فحسب بل طالب بمحاسبة المفسدين واسترجاع الأموال المنهوبة وفرض الإجراءات التي تضمن عدم العودة إلى الوراء ، و اليوم المتآمرون و الفاسدون و المستفيدون من العشريّة السّوداء قد إتّحدوا ومستعدّون للقيام بأي ألاعيب مهما بلغت قذارتها، لكن هذا الشّعب الذي هبّ واقفاً لن يسمح بمرور خططهم وألاعيبهم ولن يسمح للحياة أن تدب فيما تربو إليه نفوسهم الخبيثة ، هذا الشعب لم يستسلم ولن يستسلم…في خلاصة الأمر وواقعه المرير، إنّ مسيرة التونسيين من أجل استعادة جمهوريّتهم المتهالكة والتي دمّرتها مطامع فئة فاسدة خطفت الدّولة وأهدرت ثرواتها ، في ظلّ صمتٍ سياسي رهيب واستشراء الزبائنيّة والمحسوبيّات لابدّ أن تستمر نحو تحقيق حلم بناء دولة كل التونسيين و القطع مع عشريّة الدمار والخراب ..، إنّ إعادة بناء الدولة هي مسيرةٌ طويلة وشاقّة ولكنّها ليست مستحيلة، وقيامة تونس من مستنقع السياسة الملوثة يتطلّب إيجاد هويّة وطنيّة جامعة و بناء جبهة سياسية و إجتماعية تكون قوة اقتراح تسمح ببناء دولة مواطنة، وإقرار قوانين تقطع الطريق على عودة القوى السياسيّة البائدة و منظومة الفساد إلى السلطة و المحاسبة و لا شيء غير المحاسبة.. إنّ قيامة تونس من أزمتها الاقتصادية المصطنعة والتعطيل المقصود للحياة السياسية حاجة ملحّة وضرورية لأبناء الوطن.. إنّ مثل تونس قبل 25 جويلية كمثَلِ شركة كبرى شارفت على الإفلاس أو أفلست فعلياً نتيجة فساد مرؤوسيها الفاسدين والمفسدين و المستفيدون منذ سنوات من الفساد ، ومَثَلُ كثير من الدول الاستعمارية الطامعة في زماننا ومن حولنا كمثَلِ من يريد أن يستفيد من الوضع السّائد آنذاك والفساد المستشري في تونس في عهد العشريّة السّوداء لنهب ثروات البلاد وحرمان الشعب التونسي من ثروته ونهب مقدّراته وتعجيزه من خلال رهن إرادته مسبقاً وفرض الشروط عليه عبر إفقاره وتجويعه وإذلاله..
تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد تتحمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011 وعلى رأسهم حركة النهضة الاخوانية التي حكمت البلاد طيلة عشر سنوات من الديمقراطية الفاسدة، بإعتبارها المنظومة المهيمنة في تلك الفترة و قد عملت على تحويل الثورة إلى مجرد انتقال ديمقراطي متحالف مع الفساد، هذا هو الوضع بما يعني ان الخطر لم يعد داهماً و جاثماً بل قائماً ومتمكناً من مفاصل الدولة الحيوية، المفاصل المالية والاقتصادية والاجتماعية، فأي معنى للكرامة وأي مبنى لديمقراطية الواجهة في بلاد مهددة بشبح الإفلاس، وكل المأمول والمرتجى الحصول على تمويلات خارجية لتسديد الأجور ذلك ما اوصلتنا اليه منظومة حكم افلست البلاد وارتهنتها للخارج وفقرت العباد وحولت الآمال والتطلعات الى نكسات وخيبات، لابدّ من مصارحة التونسين والتونسيات بالحقائق المُرّة و لابدّ من تقديم جرد حساب مفصّل عن عشرية النكبة.. يجب مصارحة الشّعب بأن السفينة على قاب قوسين أو أدنى من الغرق نتيجة تراكمات من الفشل و الفساد طيلة السنوات العشر الماضية ،وأنّ المطلوب لإنقاذ البلاد من الخطر الجاثم يتطلب تقاسم التضحيات ونكران للذات وأنّ قدر هذا الجيل بالذات هو تكبد التضحيات من اجل الجيل القادم ومستقبل الوطن ولاسترداد سيادته وحرية قراره، فلم يعد هنالك مكان اليوم لمزيد إهدار الوقت ولا للتجاذبات ولا إلى التلكؤ من اي طرف كان ولا المزايدات ولا للحسابات الضيقة بعد ان باتت البلاد مهددة بالافلاس واصبحت مرتهنة بصفة واضحة الي الداءنين الخارجين ..وقد بات من باب الوطنية على كل الجهات التحلي بالحكمة وبروح المسؤولية لتمكين البلاد من الخروج من عنق الزجاجة..اليوم و أكثر من أي وقت مضى ينتظر الحكومة عمل جبار لرفع هذه التحديات، عليها ان تتوجه مباشرة الي الشعب للتحدث إليه و مصارحته وتوعيته بما ينتظره واقناعه و إعلامه بما تعتزم اتخاذه من اجرءات عملية سريعة لارساء العدالة الجبائية وللمحافظة علي قدرته الشرائية وللضغط الحقيقي على الاسعار ومقاومة التسيب والفساد والرشوة المنتشرة والإثراء الفاحش وغسيل ونهب الاموال والتهريب والتجارة الموازية وغيرها من الآفات التي نخرت ولاتزال إقتصاد ومعنويات البلاد طيلة العشرية الاخيرة التي انقلبت فيها كل الموازين رأسا علي عقب.. هذا هو الطريق الأمثل لوضع البلاد مجددا علي السكة ولكسب ثقة المانحين الدوليين والمستثمرين المحليين وتأمين رجوع الماكينة الاقتصادية للدوران بعد عشرية سيطرت عليها الهوايتية والفوضوية والزبونية وتراجعت فيها البلاد اشواطا كبري إلى الخلف، علما انه ليس لنا طريق اخر اذا ما أردنا وضع حد للعبث وتأمين افضل الظروف لاقلاع بلادنا اقتصاديا في اقرب الاجال الممكنة وحمايتها من كل المغامرات غير محسوبة العواقب…
هذه المرحلة المفصلية تقتضي موقفاً موحداً ومتماسكاً مع الرئيس قيس سعيّد والشعب التونسي، وتوحيد الجبهة الداخلية بالغ الأهمية في مثل هذه اللحظة التاريخية للخروج بالبلاد إلى شاطئ الأمان.. و لا شك في أنّ الإصلاحات التي يقوم بها الرئيس قيس سعيّد ستطوي مرحلة سياسية امتدت لسنوات في عهد الغنيمة و الإستحمار السياسي من أجل الإتجاه نحو دولة ديمقراطية حقيقي ة اجتماعية والخروج من الديمقراطية الفاسدة إلى ديمقراطية سليمة تضمن تمثيلية حقيقية للشعب..
فهل يدرك الشعب التونسي حقّاً خطورة وحساسية المرحلة الحالية وما تمرُّ به تونس من تحدّيات كبرى؟! وهل يدرك الشعب التونسي العزيز والمقهور أنّ عودة هؤلاء الفاسدين المفسدين إلى السلطة لا يعني إلّا نهب ما تبقّى من ثرواتهم و مقدراتهم بعدما نهب هؤلاء اللصوص ما نهبوا وسرقوا ما سرقوا من خيرات وثروات تونس والتونسيين على مدى سنوات طوال؟! عسى أن يدرك التونسيون اليوم حساسية المرحلة الحالية وأن يدركوا بأنّ كلَّ ما يجري في تونس حالياً من ضغوط داخلية المنشأ_خارجية التدبير والتخطيط والبرمجة والإخراج ، واقعيةً كانت أو مخطّطة مدبَّرة ما هو إلّا ضغط استعماري دولي من أعداء تونس الكثر وبتنفيذ شيطاني مشؤوم من عملاء الداخل الفاسدين المفسدين الذين وُضعوا أساساً في مناصبهم تلك لأجل هدف واحد وهو رهن إرادة التونسيين ونهب ثرواتهم بعدما قام هؤلاء الفاسدين المستغلّين وعلى مدى سنوات طوال بنهب أموالهم وممتلكاتهم وبعدما بات أكثر من نصف الشعب التونسي يرزح تحت خط الفقر نتيجة سياسات هؤلاء الفاسدين..لابدّ أن يدرك الشّعب التونسي بأنّ لا فائدة تُرجى بعد إلّا بأن يتّحد التونسيون جميعاً في رفض ومواجهة هؤلاء الفاسدين المفسدين وأن يقطعوا الطريق على من يريد لهم أن يواجهوا بعضهم بعضاً وينجرّوا إلى الفوضى التي يسعى إليها الكثير من الطامعين والمفسدين من الداخل والخارج ، وأن يعلموا يقيناً بأن لا حل ولا دواء يخرج تونس من محنتها و أزمتها الحالية إلّا بأن يُحاسَب الفاسدون جميعاً على كلّ جرائمهم وانتهاكاتهم ونهبهم وسرقاتهم ، من أيّ موقع كانوا ولأيِّ جهة انتموا..أيها الشّعب انت الآن سيّد نفسك و سيّد الموقف إنتصر لبلدك ولنفسك ومستقبلك، لا ترضى بغير الديمقراطية الحقيقية التي تكفل لك الحرية والمواطنة والعدل والكرامة والمساواة لتنال حقوقك السياسية والإقتصادية والإجتماعية كاملة.. وإن لم تفعلوا ذلك فعلى تونس والتونسيين السلام !!..
عاشت تونس حرّة مستقلّة
عاش الشعب التونسي العظيم