الخميس , 19 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

للعمالة أوجه وتاريخ

 بقلم: محمد الرصافي المقداد |

قديما وقبل ان ينتقل العرب من الجاهلية الى الاسلام، كانوا قبائل متعادية متناحرة، منقسمة على بعضها، بين موال للفرس شرقا، وللروم شمالا، يحشرون انفسهم أحيانا في صراعهما المرير، من أجل سيطرة الأسياد، فيصيبها وهي ذيولهم من حصة المنتصر قسما، ومن حصة المهزوم قسما آخر، لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وكانوا فوق تلك التبعية المذلّة، يقتتلون لأتفه الاسباب، كحرب البسوس التي أوقِدت نارها، من أجل ناقة، وحرب داحس والغبراء، من أجل غش في سباق خيل، ويعملون جهدهم لإرضاء حلفائهم، حتى على حساب بني جلدتهم، ولا يتحرّجون في ذكر ولاءاتهم، ويظهرونها كأنها أوسمة فخر زادتهم شرفا، فهم في نظر الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، رعايا وعيونا يحفظون حدودهما غربا وجنوبا، ومن جانبهم ركنين وثيقين يستعينون بهما، على السيطرة والاستقواء على القبائل الأخرى. يقول الدكتور جواد علي: ( والمصالح السياسية للقبائل لا تقيم وزنا للأخوة والنسب، فإذا اختلفت المصلحة، فلا تجد القبائل عندئذ، أي غضاضة في الإنفصال عن قبيلة مؤاخية لها، لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النسب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها، ف(عبس) مثلا، تحالفت مع (بني عامر)، في حرب (البسوس) على (ذبيان)، وهي أختها، وتحالفت (ذبيان) مع (تميم) على (عبس)، مع ما بين (تميم) و(عبس) و(ذبيان) من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين (تغلب) و(بكر)، مع صلة الرحم، والقرابة القوية، التي ربطت القبيلتين الأختين، وقع كل ذلك وحدث، بسبب تغيّر المصالح، التي كانت تربط بين هذه القبائل.)(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) ولم يكن الحال في الاسلام بأحسن عما كان في الجاهلية، ففي عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان الاعراب أول من خذله، وآخر من التحق به طمعا ومراوغة ونفاقا، وكانت مواقفهم المعادية التي اتّخذوها في منتهى الخطورة، كانسحاب ثلث عدد المقاتلين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد (شوال سنة 3 عجرية)، ورجوعهم مع ابن أبي سلول، ولم يتأخر الوحي في فضحهم وكشف سرائرهم، فلم يغّر ذلك من سلوكهم، وواصلوا مؤامراتهم الى أبعد مدى أمكنهم ذلك، ولا يزال حزبهم الى اليوم يعمل، وان اختلفت المصطلحات وتغيّرت الأسماء، بمقتضيات عدائهم الخفي للإسلام وأهله. ثم جاء العصر العباسي، حيث كان صراع الفرق والمذاهب على اشده، في البلاد الاسلامية شرقيّها وغربيّها على حدّ سواء، بنسب متفاوتة في العنف والاضرار، وقد خلّفت آثارها السيئة في التراث الاسلامي، ولا تزال تنفث سمومها الطائفية العقيمة الى اليوم. وما فرّط في الاندلس، سوى ما أصبح عليه امراءه ( ملوك الطوائف) 422 هجرية من تفكك وانفصال بعضهم عن بعض، استئثارا بحكم كل لمنطقته، وصراعهم الطويل أجل السيطرة وبسط النفوذ، وقد بلغ بهم الحال الى دفع الجزية للملك الفونسو السادس، والاستعانة به على غرمائهم ومنافسيهم من بني جلدهم. وما سقوط بغداد على يد المغول 656 هجرية، وهلاك أغلب سكانها، ودمارها حضارتها، الا بسبب التقصير والتفريط وغلبة أهل الباطل، وجميعها متعلٌق بالإخلال بالواجبات، سواء من جهة الحكام، بنزوعهم الى التواكل والدّعة، وايثار الحاشية على الرّعية، والحيف في الحكم، ومحاباة أهل الوجاهة في المجتمع على اهل المسكنة، أو من جهة المحكومين، بركونهم الى هؤلاء الظلمة، وتقصيرهم في طلب حقوقهم، والتضحية من أجلها. لم تتغير خارطة العمالة في شبه الجزيرة العربية حديثا، كأنما كتب عليها أن تبقى على نفس الوتيرة من الانحطاط الاخلاقي والقيمي، معبّرة عن حقيقة مرة تقول: إن عقلية البداوة التي ذكرها الله في كتابه: ( وممن حولك من الأعراب ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم.) (سورة التوبة الآية 101)، ليست سوى نزعة متأصّلة في حكّامها، وطبع غلب عليهم، وما بالطبع لا يتطبّع. أنظمتنا العربية اليوم، ذكرتنا بكل هذه الانحرافات والمصائب التي لحقت أجيالنا، وهي في مستنقعها الآسن، الذي تتخبط فيه بين صنفين: صنف اختار العمالة أصالة فيه، ومن اختارها طمعا فيما تدرّ عليه من نعم الأسياد لعبيدهم – علما وأن العبودية قد أخذت طابعا مميّزا عما كانت عليه سابقا، ولم تعد تذكر بصفتها القديمة، مراعاة لأصول التعامل – ففيما تعلّق بالمتأصلين، وذوي الباع والذراع في العمالة، وتصنيفهم العالمي مما لا يشق لهم غبار فيه، نجد دول الخليج في المقدّمة، ومعهم الملكان الأردني والمغربي، بفارق أشواط كثيرة، لا يمكن لمن تسوّل له نفسه مجاراتهم أو اللحاق بهم، ولو استعان بشياطين الأرض جميعا. امّا من ركب العمالة أملا في نوال شيء، وامتطى صهوتها طمعا، فهناك جمع من الحكام والأنظمة العربية، ممن رضوا بالدّون، وأنسوا لقمة الذلّ والهوان، بمقابل بخس رخصت به قيمة شعوبهم، كمصر، والسودان، وتونس بدرجة أقلّ، ولولا موقعية حزب الله الشريف لأضفت لبنان الى هؤلاء، لموقعيّة آل الحريري وفريق المستقبل منهم، وانكشاف عمالتهم لبني سعود من زمان، بإبقاء لبنان على حرف من عدم الاستقرار السياسي. الجوانب المخفية على شعوبنا خلال الثماني سنوات الماضية، جعلتها تعتقد أن ما حصل في تونس ومصر وليبيا وسوريا كان ثورة، ولم تلتفت الى أن هناك أنظمة عربية أخرى، كان من باب أولى أن تندلع فيها ثورات وتزول أوّلا، لكن شيئا من ذلك لم يحصل، وهو دليل على أن الربيع العربي كان مسرحية محبكة الاخراج، وتصفية حسابات، وتمويه في تغيير سياسات بما يضمن بقاء تلك الدول في خيمة العمالة، في صيغة شعبية ديمقراطية. إيعاز هنا، ومنع هناك، ومباركة هنا، وسكوت وتضليل هناك، وثورة ربيع عربي، تقودها وتموّلها أشد الأنظمة عمالة وخضوعا للغرب، ظهر زيفها من هذا الوجه وحده، دون أن نتطرق الى اشتراك دول الغرب المستكبر – المعادي للثورات أصالة وطبعا – في مواكبتها بالتوجيه والدعاية والمباركة، زادها افتضاحا مساراتها المتعرّجة، المنحرفة تماما عما يحصل في الثورات عادة، من استكمال المسار الثوري، وجني ثماره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لا أشك قطعا، في أنّ ما جرى على بلداننا، كان مخططا لئيما، اقتضى إخراج شعوبنا، من حال اليأس والقنوط بسبب سياسات حكامنا العميلة للغرب، ودخولنا بعد ذلك طوعا الى باب الرضا بنفس تلك العمالة، وأشدّ منها خطرا، مغلّفة بلون الدول صاحبة الفضل – عمالة بالوكالة – فيما وصنا اليه من اسقاط دكتاتورية فرد واسرته، واحلال دكتاتورية ديمقراطية زائفة، تتقاسم نفوذها ومصالحها، وتتشطّر ضرعيها أحزاب، كشفت أوراقها، وأخرى لا تزال تنتظر دورها، بإعداد ومباركة غربية. هذا الذي رأيناه بأم أعيينا، تمشّ مع رغبة أعدائنا في معارضة مطالب شعوبنا، وجرّ حكوماتنا وراء رغبات الغرب في تحقيق مصالحه، حتى لو كانت على حسابنا، ونراه اليوم يقترب أكثر في تأسيس حلف أعرابي غبيّ، عابثة بمستقبلها إن تمكن من ذلك، ويبدو أن المخطط في طريقه الى التنفيذ، وكل المؤشرات التي بين أيدينا توحي بذلك، فشعوبنا بالنسبة للغرب مجرد مخبر تجارب، ووقود لعدوان ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية، ليس للعرب فيه مصلحة واحدة، وفيه ضرر فادح للإسلام والمسلمين، وخدمة مجانية لأعداء الامة الاسلامية، فمتى تستفيق شعوبنا يا ترى؟ أم أنها ستبقى لعبة هينة بين أيدي أعدائها بالأصالة وبالتبعية؟

شاهد أيضاً

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024