تشهد الجزائر من خلال المناقشات الجارية حول مضمون وفلسفة مسودة الدستور نقاشات حادة ومكثفة يمكن اعتبارها وفي الجانب الأكبر منها ظاهرة صحية، ويطرح البعض رؤيتة لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في الجزائر مطالبا باعتماد النظام البرلماني من منطلق أن هذا النظام هو الأكثر قدرة على تفعيل وحماية الحياة الديمقراطية في البلاد، وهذه الرؤية جديرة بالاحترام وتتضمن أفكارا لها وزنها، بغض النظر عمن يتفق أو يختلف معها،إذ لا أحد يمكنه أن يتجاهل ما حققته مختلف النُظم البرلمانية من إنجازات في مجالات الحكم وحسن إدارة شؤون الدولة والمجتمع ، وبعيدا عن مدى صحة أو هشاشة التبريرات المقدمة من قبل أنصار أو رافضي النظام البرلماني في الجزائر ، فإنني أعتقد أن النظام الرئاسي حسب نظرتي المتواضعة هو النظام الأصلح للجزائر في المدى القريب والمتوسط على الأقل، هذا كفكرة عامة، أما من حيث التفاصيل فيجب أن تكون صلاحيات رئيس الجمهورية في حدود مقعولة بحيث لا تمتص أو تحتكر كامل الصلاحيات الهامة في الدستور،ولا يهم هنا أن يكون النظام رئاسيا أو شبه رئاسي لكن من المهم جدا أن ندرك أن المجتمع الجزائري بالفعل ليس جاهزا بعد للأخذ بالنظام البرلماني، ولايتعلق الأمر هنا بقصور أو عجز بنيوي في الإنسان الجزائري، بل يتعلق أساسا بمجمل الظروف السوسيو ثقافية التي لم تتبلور بعد، فضلا عن عدم تبلور الرؤية الاقتصادية بشكلها المطلوب، فنحنُ نعاني من ضعف وهشاشة وحتى تفاهة وخيانة الأحزاب السياسية ، وضعف الالتزام بأخلاقيات المواطنة على المستوى الشعبي بوجه عام.
وإذن الضعف الاقتصادي والهشاشة الاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع الجزائري تحد من قدرة هذه الشرائح على الاختيار السياسي وتجعلها رهينة محتملة للمال الفاسد الذي تناضل الجزائر من أجل الحد من تأثيره على الحياة السياسية، كما أن وجود برجوازية مزيفة تفتقر لأدنى القيم المدنية أو القدرة على تحمل المسؤولية السياسية تجاه الوطن والشعب كل ذلك وغيره يُقلل من حظوظ نجاح النظام البرلماني في بلادنا على الأقل في المدى القريب والمتوسط، إذ من المعروف أن النظام البرلماني يحتاج من بين أمور أخرى إلى حياة ليبيرالية مزدهرة ولو نسبيا ، ولذلك فإن اعتماد التوجه البرلماني فورا سيفتح الأبواب أمام البورجوازية المزيفة لتَصَدُّرِ المؤسسات التمثيلية باستغلال قوتها المالية وعلاقاتها مع مراكز القوة الاقتصادية والمالية، وما سيترتب على ذلك من انحرافات ومساوئ، كما أن وجود تجمعات وأحزاب في الجزائر، ترتكز إلى العامل الجهوي، وتُحاول فرض مطالب سياسية شاذة مثل الفيدرالية أو ما يمهد لها ويقود إليها مثل رغبة البعض في فرض نمط من التسيير ذي الطابع الجهوي ! يجعل من النظام الرئاسي هو الأكثر ملائمة لأوضاعنا على الأقل في المدى المنظور.
ومما قد يساعد على توضيح الصورة أكثر أن نتساءل : لماذا كان نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية رئاسيا وفي دول وممالك أوربا الغربية برلمانيا ؟ العودة السريعة إلى التاريخ تقدم لنا جانبا من الإجابة ، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية في نشأتها كانت في حاجة إلى تعزيز وحدتها في مواجهة الخطر الإنجليزي خاصة ومن أجل أن تمتلك الولايات المختلفة (13ولاية عند بدء الصراع مع انجلترا) القدرة على التحدث والتصرف ككيان واحد على الأقل في الشؤون الخارجية ، فكان النظام الرئاسي هو الإجابة المناسبة على المطالب والتحديات التي فرضتها ديناميكية الأحداث في الواقع الأمريكي ولايزال الرئيس الأمريكي إلى اليوم يتمتع بصلاحيات واسعة باعتباره رمزا لوحدة الأمة الأمريكية رغم قوة المؤسسات الأمريكية وقدرتها هي الأخرى على التصدي للرئيس، في حين أن التحدي الأساسي الذي واجهته الشعوب الأوربية بعد إنجاز وحدتها القومية والانتهاء من بناء الدولة هو تحدي الحد من سلطات وصلاحيات الملوك والأباطرة فكان تحويل الجزء الأكبر من صلاحيات وسلطات الملوك والأباطرة إلى الهيئآت التمثلية المنتحبة من قبل عموم المواطنين هو الحل فكان النظام البرلماني هو المخرج الذي انتهت إليه أزمة الأمور في غرب أوربا ، أي أن أنظمة الحكم لا تنشأ فقط من محض الرغبة الإيديولوجية التي يعرب عنها هذا الطرف أو ذاك، فهناك ظروف تاريخية وموضوعية يجب فهمها وإدراكها ونحن نفكر ونعمل على اختيار أفضل نظام حكم يتناسب مع ظروف بلادنا وتطلعات شعبنا، ومن هذه الناحية فإن أية قراءة لشرطنا التاريخي وسياقات الماضي القريب ورهانات الحاضر والغد المأمول تضعنا أمام حقيقة أن النظام الرئاسي هو النظام الذي يمكن بواسطته للجزائر أن تواصل طريقها إلى المستقل بأمن وآمان.
وفي الأخير أدعو رئاسة الجمهورية إلى ضرورة توسيع اللجنة المكلفة بإعداد وثيقة الدستور لتضم إلى جانب رجال القانون عددا من علماء الاجتماع والاقتصاد، وكبار الباحثين في العلوم السياسية والفلسفية والتربوية …إلخ لأن الدستور ليس مجرد نصوص قانونية أو مواد تقنية بل هو الوثيقة الأعلى التي من المفروض أن تحتوي على رؤية المجتمع لنفسه وقيمه وشؤونه وفلسفة الدولة في التعامل مع مكوناتها وحاجاتها المختلفة في الداخل والخارج ولذلك فإن اقتصار تكوين اللجنة على المختصين في القانون فقط هو خطأ واضح ينبغي تداركه.
الوسومالجزائر فوزي حساينية
شاهد أيضاً
هل يمكن أن نشهد إستخداما للأسلحة النووية في الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا ؟…بقلم فوزي حساينية *
منذ اندلاع الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا برز سؤال أساسي ورهيب هل يمكن أن تلجأ …