نشر الكاتب والصحفي أحمد نظيف المختص في شؤون الجماعات الدينية والأقليات، تدوينة على صفحته فايسبوك تحت عنوان “لماذا فشل مشروع التمكين الإسلاموي في تونس؟”، هذا نصّها:
لماذا فشل مشروع التمكين الإسلاموي في تونس؟
نهاية تسعينات القرن الماضي وضع القيادي الإخواني الليبي علي الصلابي، اللمسات الأخيرة على رسالة دكتوراه سيناقشها لاحقاً في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان في العام 1999، أياماً قليلةً قبل المفاصلة التاريخية بين جناحي الحركة الإسلامية السودانية، الرئيس عمر البشير من جهة، والأب الروحي للحركة الشيخ حسن الترابي في الجهة المقابلة. كانت رسالة الصلابي، التي ستتحول خلال أعوام إلى أحد الأسفار المركزية داخل حلقات التربية الحزبية الإخوانية، تحمل عنواناً لافتاً:” فقه النصر والتمكين” وهي عبارة عن خريطة مفصلة للمهام التمكنية التي يقوم عليها المشروع الإستراتيجي للإخوان المسلمين في كل مكان وجد فيه متسعاً للنشاط والحضور. وقد قسّم الصلابي هذا المشروع إلى أربع مراحل، أولها مرحلة الدعوة والتعريف وثانيها مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة وفي طور ثالث مرحلة المغالبة حتى نصل إلى مرحلة النصر التمكين وهي السيطرة التامة على السلطة السياسية والمجتمع.
لكن أطروحة الصلابي التتويجية للأدبيات الإخوانية حول ”مشروع التمكين” سبقتها الكثير من الأطروحات النظرية التي أصّلت دينياً وسياسياً لهذا المشروع، لعل أهمها مقولة “التدافع الإجتماعي” التي وضعها رئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، والتي يفصل خلالها المرحلة التي يسمها علي الصلابي ب”المغالبة” وهي أهم مراحل التمكين وأصعبها، والتي على ضوئها يمكن الحكم على مشروع التمكين نجاحاً أو فشلاً. وخلال مرحلة التدافع، يمكن أن تحقق الحركة الإسلامية شوطاً كبيراً من السيطرة على السلطة السياسية، لكن نجاح التمكين سيبقى رهيناً لنجاحها في السيطرة على المجتمع، أي إحلال الطبقة التي تمثلها إجتماعياً محل الطبقة المهيمنة، وتحويل جهاز الدولة البيروقراطي ومؤسساته الصلبة (الجيش، الأمن…) أداة بيد الحركة الإسلامية. وتالياً إعادة تشكيل المجتمع والدولة وفقاً للبرنامج الإيديولوجي للحركة.
بعد سقوط زين العابدين بن علي صعدت “حركة النهضة” الإسلامية إلى السلطة وشرعت منذ اليوم الأول، باندفاع كبير، نحو تطبيق مشروع التمكين، وقد بدا ذلك وبوضوح خلال الفترة الأولى من حكمها بين 2011 و2013، لتكتشف أن الطبقة المهيمنة القديمة شديدة الرسوخ في البلاد، من خلال الهيمنة على الثروة وعلى الجهاز البيروقراطي للدولة، وبخاصة على الأجهزة الإيديولوجية للدولة (التعليم، الثقافة، المؤسسة الدينية الرسمية، النخب..)لتجد نفسها مجبرة على عقد صفقة معها عبر الدخول في مرحلة “التوافقية” والانخراط أكثر في المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، حيث تحول مسار التمكين من الاندفاع المباشر للسيطرة إلى بناء شبكات إقتصادية ومصالح سياسية ومالية مع النخب القديمة والسائدة، ومن خلال وجودها النسبي في السلطة نجحت نسبياً في تجذير وجودها داخل الجهاز البيروقراطي للدولة. فقد كان الغنوشي حريصاً على ضرورة تشكيل شبكة نخب مؤثرة في القطاعات المالية والتعليمية والأمنية والحزبية والمدنية والإدارية وزرعها داخل الطبقة السائدة باعتبارها رصيد “الحركة الإسلامية”، اذ يعتبر الغنوشي أن هزيمة التجارب الإسلاموية كانت نتيجة “الفقر النخبوي” الذي تعاني منه الحركات الإسلامية، رغم أنها تملك قواعد شعبية كبيرة إلا أنها غير مؤثرة في مواقع القرار داخل النخب. وهذا الإهتمام بالنخب جعل الحركة تخسر قطاعاً كبيراً من قاعدتها الشعبية، والذي سيكون أحد أسباب خذلانها في الصراع مع قيس سعيد لاحقاً.
لكن اللحظة التي تعيشها تونس اليوم تبدو جديرة بكل التباس. في 25 جويلية الماضي قرر الرئيس قيس سعيد إيقاف الصراع السياسي والإجتماعي وإنهاء اللعبة التي بدأت في أعقاب سقوط بن علي. أي إنهاء مسار التدافع الإجتماعي الحاد، لتجد الحركة الإسلامية التونسية نفسها خارج الملعب في لحظة من لحظات القدر ، ليتبدد حلم التمكين ويتوارى بعيداً، أقله في المدى القريب والمتوسط.
لكن لماذا فشل هذا المشروع؟
كان عجز الحركة عن الهيمنة على جهاز الدولة البيروقراطي، وبخاصة مؤسسات الدولة الصلبة، أكثر نقاط ضعفها التمكيني. فرغم المحاولات الحثيثة التي قامت بها طيلة عشر سنوات للسيطرة على أجهزة الدولة – في سبيل الإتكاء على البيروقراطية كأداة للسيطرة على المجتمع – فقد فشلت “النهضة” في ذلك بسبب ولاء النخب البيروقراطية المعادي للإسلام السياسي وكذلك ولائها للبرجوازية التقليدية الراسخة منذ ثمانينات القرن الماضي. وقد بدا واضحاً أن البيروقراطية قد انحازت بكليتها إلى جانب قيس سعيد خلال الساعات الأولى من قفزة 25 جويلية البونابرتية، وقد بدا أكثر وضوحاً أن مؤسسات الدولة الصلبة – الأمنية و العسكرية – قد بقيت في نوع من المناعة ضد محاولات الإختراق، رغم أن الحركة الإسلامية حققت إختراقات مهمة في الأجهزة الأمنية والعدلية.
ويبدو السبب الثاني المركزي في هذا الفشل الإسلاموي المديد، هو عجز الحركة الذاتي عن القيام بمهام السيطرة السياسية، حيث توفرت لها فرصة تاريخية كي تثبت جدارتها بالتفويض الشعبي الذي حصلت عليه في محطات انتخابية كثيرة، لكن الفقر النخبوي الذي تعاني منه الحركة – والذي لم تنجح في تبديده خلال عشر سنوات – جعلها عاجزة عن الحكم، وسط غابة من المتربصين بالحكم من أجنحة البرجوازية المتصارعة.
وفي سعيها الى بناء نخب جديدة موالية واستمالة البيروقراطية وبناء شبكات اقتصادية تجعلها أكثر رسوخاً ضمن مصالح الطبقة الحاكمة، كانت “حركة النهضة” تخسر كل يوم من قاعدتها الشعبية المتكونة تاريخياً من شرائح أجراء الطبقة الوسطى وقطاع واسع من البرجوازية الريفية والمدينية الصغيرة، حتى إذا وصلت إلى لحظة 25 جويلية لم تجد من يقف معها في الشوارع في مواجهة المد الشعبي الداعم للرئيس قيس سعيد، والذي استفاد من فشل منظومة الأحزاب وامتص قواعدها الإنتخابية في 2019 ثم الشعبية في 2021. فقد أدت القفزة البهلوانية للغنوشي ورفاقه في 2016 من الإسلام السياسي نحو ما يسميه بالإسلام الديموقراطي في خسارة الحركة رأسمالها الرمزي وهو احتكار الدفاع عن الإسلام وتمثيله، حيث طالما شيدت قواعد مشروعها التمكيني منذ عقود على فكرة الأسلمة. فقد كان الغنوشي يعتقد أن هذه الكتلة المتحمسة من الجماهير لها من الولاء ما يجعلها طيعة في يده لكن انهيار قاعدة الحركة الإنتخابية في 2019 لم يوافق متتالية توقعاته.
لكن هل يعني فشل مشروع التمكين، نهايته؟ قطعاً لا، فنحن إزاء حركة نشأت وعاشت في قلب الأزمة، أو ما يسمى في أدبياتها ب “المحنة” ولديها من المرونة والليونة والقدرة على التبرير ما يجعلها قادرة على التأقلم مع مصاعب المرحلة وإعادة تشكيل نفسها في أشكال جديدة، ففي مقابل “فقه النصر والتمكين” تفزع الحركة إلى “فقه المحنة” في مثل هذه الأجواء الصعبة التي تعيشها.