تُعْتَبَرُ فترة ما بعد 14/1/2011 في تونس من أصعب الفترات الإدارة حكوميا، فقد تخلّلت سنواتها الأولى فوضى عارمة، وانفلات أمني كبير، وأعمال عنف استهدفت شخصيات معروفة، وتهديدات موجّهة لجهات دينية وسياسيية، من طرف عناصر وهابيّة سلفية معروفة بتشددها، وبقيت حالة الإنفلات الأمني قائمة لسنوات، ولم تنقشع عن أرض البلاد ويزول خطرها، بغير انتقال تلك العناصر بحماس في رحلات بواسطة شركة طيران يملكه رجل أعمال مقرّب من حركة النهضة، زاجّة معها شبابا مخدوعين بخطاب الجهاد التكفيري.
خلال تلك السنوات التي أعقبت ما عُرف ببداية مشروع الربيع العربي، خضعت بلادنا لمشيئة قوى خارجية، كانت تريد زج الشباب بعد أدلجته، في محاور صراعات دولية، هدفها تغيير الخارطة السياسية في المنطقة العربية، لتكون نتائجها النهائية في خدمة المشروع الصهيو أمريكي، الذي أعِدّ له الغرب العدة جيّدا لإنجاحه، وقدّم فيه تونس نموذجا مغريّا لبقية الشعوب العربية، سهُل فيه اسقاط نظامها بأقل الخسائر البشرية، ولم يغِبْ عنّا أن المستهدفة من الدول، هي تلك التي مثّلت عائقا أمام أمريكا، في تنفيذ مشروع الشرق أوسط الجديد، مثل سوريا ولبنان والعراق، فانحسر مثلا عن دول الخليج التي هي بحاجة ماسة للتغيير نظرا لفقدانها ابسط معايير الديمقراطية المبشّر بها غربيّا.
لقد تأخر وقت المحاسبة على ملفات خطيرة، تهمّ الأمن الوطني بدرجة أولى، بعد سلسة الأعمال الإرهابية التي حصلت ببلادنا ، ويبدو أن تأخيرها كان متعمّدا، من طرف من له مصلحة في ابقائها بعيدا عن مُتَنَاول قضاء عادل وقع العبث بقضاته، ولم يكن هناك داعيا واحدا يبرّر تحيد ملف تسفير الشباب التونسي الى بؤر التوتّر، وهو بتلك الأهمية والخطورة، لولا أن عرقلته للمرور إلى تحقيقات جادة، وقضاء وطني نزيه، كانت تتمّ من طرف من له مصلحة في إبقاء ملفاته بعيدا عن المحاسبة.
(ففي عام 2017 تشكلت تونس لجنة برلمانية للتحقيق في الشبكات المتورطة بتجنيد وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر خارج البلاد التونسية للقيام بأعمال إرهابية، وقدّم المسؤول الأمني (الدردوري) بملف للجنة يقول إن به “أدلة دامغة حول تورط حركة النهضة وأذرعها داخل المطار، وفي وزارة الداخلية في التغرير بالشباب، وتسفيره للعراق وسوريا وأفغانستان”.
وأوضح الدردوري “أن العملية تبدأ باستقطاب الشباب التونسي، ليتم تسفيرهم إلى ليبيا حيث معسكرات التدريب، ثم يسافرون جوا إلى تركيا، ومنها يتم إدخالهم عبر الحدود البرية إلى سوريا بالأساس، ومنهم من يواصل “طريق الجهاد” نحو العراق.(1)
لقد عمل سلك القضاء خلال العشرية الماضية على التغطية على الملف، كما هو الحال مع ملفات أخرى، مثل ملف الاغتيالات والجهاز السري، بسبب ما قام به وزير العدل (نور الدين البحيري2011/2013) من تحويرات وترقيات واجراءات، في صلب مفاصل الوزارة وتوابعها.
المحامي المسدي قال في تصريح لجريدة الصباح الأسبوع الماضي، إن الملف يحوي شهادات ووثائق، وسماعات تصب في اتجاه واحد، وهو وجود جهاز سري، ساهم بالتعاون مع وفاق إجرامي محلي ودولي، في تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر، سواء إلى سوريا أو العراق أو ليبيا.
ويرى مراقبون أن أغلب الموقوفين في ملف التسفير، سواء من السياسيين أو الأمنيين، على علاقة من قريب أو من بعيد بحركة النهضة الإسلامية، حيث تولوا مناصب في العشرية الماضي، على غرار (العبيدي) الذي تولى منصب رئيس غرفة حماية الطائرات بمطار تونس قرطاج الدولي، أو (فتحي البلدي) الذي تولى منصب مستشار وزير الداخلية الأسبق (علي العريض) ومناصب أخرى، قبل عزله بعد اتخاذ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو(جويلية). ومثلت عملية القبض على (محمد فريخة)، الذي انتخب نائبا عن حركة النهضة، في الانتخابات البرلمانية لسنة 2014، كما ترشح للإنتخابات الرئاسية في نفس الفترة، مواصلة لجهود إنهاء حقبة، عرفت تغلغل التطرف والإرهاب، ومحاولة السيطرة على مفاصل الدولة.(2)
أوضحت (ليلى الشتّاوي) رئيسة لجنة التحقيق حول شبكات التجنيد، المتورّطة في تسفير الشباب التونسي إلى مناطق القتال، المتكوّنة من أعضاء برلمانيين سنوات 2014-2019، أن الملف يمس من الأمن القومي التونسي، خاصة وأن عدداً هاماً من الشباب الذين وقع تسفيرهم، وقاتلوا في بؤر التوتر خلال السنوات الأخيرة، عادوا إلى تونس وباتوا يشكلون خطراً على البلاد.
وقالت:” وقع إرباكنا وتخويفنا من داخل حزب النهضة ومن خارجه، أثناء العمل على ملفات التسفير، وتعرضتُ شخصيّاً وعائلتي إلى هرسلة ومضايقات عديدة”.
وتحسرت الشتاوي على عدم إنهاء اللجنة لمهامها، خاصة وأن ملفات حارقة كانت معروضة على طاولتها، وهي ملفات تهم آلاف الشبان التونسيين، منهم من عادوا، ومنهم من في السجون، وآخرون مزالوا غير بعيد عن الجزائر وتونس، وفق قولها.
وتابعت:” هناك مسؤولو دولة من النهضة، وقيادات في الحزب، يشتبه في تورطهم في تسفير الشباب إلى بؤر التوتر، وهناك جمعيات مدعومة من دول وجهات أجنبية، قامت بتمويل حملات تجنيد الشباب، وتسفيرهم إلى سوريا والعراق”.
وأردفت:” هذه الملفات تمثل قضية دولة بامتياز، لأنه ليس من السهل الهيّن مغادرة هذا العدد من الشبان للبلاد، دون أن تنتبه أجهزة الدول لذلك.. آنذاك كانت قيادات حركة النهضة، على رأس وزارات حساسة في الدولة، وكان عدد من نوابها داخل اللجنة، من أجل تعطيل حسن سير أعمالها”. وأضافت:” آخر اجتماع للجنة كان بحضور لجنة التحاليل المالية عن البنك المركزي.. ويومها لم يحضر سوى نواب النهضة والنائبة (ريم محجوب)، ليتم بعد ذلك اقصائي من اللجنة”.
وبخصوص مصادر التمويل، قالت إن جمعيات وجهات أجنبية وشركات تقف وراء ذلك، مضيفةً:”(سيفاكس آرلاينز) كانت ستكون شركة جهوية وليس وطنية.. لتصبح بعد ذلك منافساً للخطوط التونسية.. كما أن (محمد فريخة) تحصل على قرض من البنك الفلاحي، لشراء طائرة صخر الماطري المصادرة سنة 2012″.(3)
وقد حان الوقت لفتح كل هذه الملفات دفعة واحدة، ومنها الجمعيات الخيرية الطامّة الكبرى التي كانت تتخذ من عناوينها واعمالها الخيرية، غطاء وستارا للعمل الميداني، في استدراج الشباب إلى الجهاد في سوريا والعراق باسم الدين، واعتقد أن لحركة النهضة ضلع في رعاية هذه الجمعيات وتميلها، تذكّروا جيّدا السفرات التي كانت تلك الجمعيات تقوم بها إلى بنقردان وراس اجدير لتوزيع المواد الغذائية على اللاجئين الليبيين والأفارقة الفارين من ليبيا، ويعودون من هناك بالأسلحة والذخائر.
ولم تكن التُهم الموجهة للجمعيات الخيرية نابعةً من الفراغ، فقد قادت التحقيقات التي أعقبت العمليات الإرهابية التي وقعت إلى وجود صلات بين بعض الجمعيات، التي تعمل في المجال الخيري وعناصر متهمة بالوقوف خلف هذه العمليات. غير أن نشطاء في المجتمع المدني يرون أن هذه استثناءات يجب عدم تعميمها واتخذاها ذرائع لتعطيل العمل المدني، ما أثار جدلاً واسعاً في البلاد لم ينته بعد، ويتجدد عقب أي عملية إرهابية.(4)
لقد كانت تلك حال تونس في تلك الفترة من الزمن، مهيع لدعاة التكفير، تحت أنظار النهضة التي كانت طرفا فاعلا في الحكم، وعليها اليوم أن تثبت من خلال المشتبه بهم من قياداتها براءتها من تورّطها، ولم يعد هناك مجال للتغاضي عن جرائم مسّت عائلات كثيرة داخل البلاد، واضرّت بسمعة تونس في سوريا والعراق، أخيرا انفتح ملفّ عصيّ ونرجو من فتحه أن يزيح عنّا غمّة ضلّت تلاحقنا عشر سنوات، فهل تنجلي عنّا بحقّ وتقنعنا التحقيقات بشأنه، وهل هو فعلا لمصلحة تونس؟ الإجابة مرهونة بحسن النوايا وصدق العزائم.
المراجع
1 – تونس تقترب من الرأس المدبرة لشبكات تسفير الشباب إلى بؤر التوتر
https://middle-east-online.com/
2 – إيقاف فريخة يعيد ملف تسفير الشباب في تونس إلى الواجهة
https://www.alarab.co.uk/
3 – الشتاوي: النهضة حاولت تخويفنا وإرباكنا أثناء عملنا على ملف التسفير (فيديو(
https://www.mosaiquefm.net/ar/print/1085988/
4 – الجمعيات الخيرية في تونس في دائرة الإتهام
https://raseef22.net/article/37473-charities-in-tunisia-accused-of-supporting-terrorism