تبدو الحكومة التونسية في وضعها الحالي من تقسيم السلطات، مربكة في حركتها السياسية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وصل بسلطاتها الثلاث (رئاسة الجمهورية/ رئاسة الحكومة/ رئاسة البرلمان) إلى حدّ التناقض، الذي بلغ درجة المواجهة بينها، فيما ظهر من تصريحات من جانب الرئيس قيس سعيد، وردود أفعال شركائه في الحكم، مما أظهر عيبا في هذا النظام السياسي المعتمد لحدّ الآن، يدعو إلى مراجعته بسرعة، كي لا يستمر الحال من التنافر، ويتفاقم بعد ذلك.
هذا الوضع السياسي المدعوّ إلى الحيرة، فيما آلت إليه تونس، يدعونا إلى النظر في استراتيجيتها السياسية القديمة التي لم تتغير، والتي وضعها من كان ماسكا بالحكم قبل (الثورة)، ومضى عليه الحكّام الجدد بعدها، كأنما هنالك اتفاق مبرم قد وُقّع بين حركة النهضة مثلا، وبين أطراف غربيّة (بريطانية/أمريكية/فرنسية)، يقضي بوضع خطوط حمراء أمامها، وهي العائدة إلى الساحة السياسية، بعد ما يزيد عن العقدين من الاغتراب، غلقا لمنافذها أمام رغبة الشعب، وهي مسألة التبعيّة للدول الغربية، وعدم المساس بمصالحها، مهما كان السبب والدّافع إلى ذلك.
ولا أعتقد أن تخلّي حركة النهضة عن القضية الفلسطينية، كان بمحض إرادتها، وهي التي علّمت أبناءها منذ بداية تأسيسها وما بعد ذلك، من نضال إحياء يوم الأرض ويوم النكبة ويوم الشهيد، وتظاهرات مساندتها دون يوم القدس العالمي، ومظاهر تلك التظاهرات التي طغت على الساحة الطلّابيّة، وما دعاها بعد 2011 إلى مقاطعة يوم القدس العالمي سوى عقلية مريضة، لا تزال ترى إيران الإسلامية والشيعة بمنظار طائفي، وإلا فما عذر هذه الحركة في مقاطعتها لفعاليات يوم القدس، وهو يوم نصرة للقضية الفلسطينية؟
ما لا يدركه أهل النهضة قيادة وأنصارا، أن أي فشل في تجربتهم السياسية، سيعود بالضرر الفادح على التوجّه الإسلامي عموما في تونس، ولن يقتصر ذلك على النهضة وحدها، لذلك فإن تصويت قسم مهمّ من الشعب لصالحهم، في الإنتخابات الأولى لإختيار أعضاء المجلس التأسيسي، كان من باب تعاطف كبير معهم، خصوصا ذوي التوجّه الإسلامي العام، لتاريخهم النضالي الكبير، الذي كان عليهم المحافظة عليه، بدل مبادلته بشراكة في الحكم، أثبتت ثلاث مرات عقمها، وعلى مدى عشر سنوات منها، لم يجني منها الشعب ولا البلاد شيئا.
تجربة حركة النهضة في الحكم كانت فاشلة ومعيبة، واعتقد أن سوء تقدير خوضها كتجربة كان بتشجيع من الغرب ليس محبة فيها، وإنما من أجل تشويه صورة الإسلام السياسي بواسطتها، وغلق الباب أمام أي تجربة أخرى إسلامية قد تأتي بعدها، وما يسعى إليه الغرب بمنظومته الإستكبارية المعادية للإسلام، يهدف إلى تجذير عقلية استبعاد السياسة تماما على الإسلاميين، حتى لا يكون لهم دور في الحكم في بلدانهم، ومن هنا نفهم منطلق الارباك في سياسة الحكومة التونسية، بوجود فرقاء على طرفي نقيض في الحكم، بين موال لفرنسا وموال لأمريكا وليست بريطانيا ببعيد عن سباق التنافس على بلادنا، ولا دور لدول البترو دولار، سوى دفع الأموال بأوامر أمريكية أو بريطانية لمن يخدم مصالحهما.
أما فرنسا صاحبة الإرث الإستعماري، فيبدو أن البساط سيسحب منها، رغم أنصارها الفرنكوفونيين، من الطبقة المثقفة فرنسيا، وهذا الوضع الذي تمضي إليه، ينطبق أيضا على تواجدها في كل دولة أفريقية، كانت خاضعة من قبل للإستعمار الفرنسي، فيها ما يغري نهمة أمريكا وشريكتها من ثروات طبيعية، ولو أدّت إلى انتهاك حقوق وحريات تلك الشعوب، وكأنّما هناك قناعة بدأت تتبلور أفريقيا، في أنّ على فرنسا أن تغادر أفريقيا، لتترك غيرها يحلّ محلّها.
يمكن القول بأن صراع فرقاء السياسة في تونس، أخذ منحى الانتصار لأحزابهم، بدل إعطاء الأولوية لمصلحة البلاد والشعب، وهذه المناكفات الحزبية الوضيعة، اثرت سلبا على سير دواليب السلطة، بحيث طغت الاختلافات عملا بالمثل: خالف تُعرف، لغاية واحدة هي ابداء الرأي المخالف، وان كان مجرّد كلام لا وزن له عنادا، وعرقلة لسير وزارات ومؤسسات الدولة، ويبدو أنّ الشعب قد سئم وملّ من هذا الوضع، الرّاكد في مستنقع العبث السياسي، وسوف لن يبطئ في اتخاذ قراره، خصوصا بعد فرض الحجر الصحي العام، الذي ستكون له تداعيات خطيرة منها ترجيح قيام عصيان مدني، من شأنه أن يجبر الحكومة على التراجع عنه، بعد تورّطها في السماح للمساحات الكبرى بفتح أبوابها أمام المتزودين.
إنّ الذين لا زالوا يعتقدون بأن ما حصل في تونس ذات يوم 14/1/2011 كان ثورة، عليهم مراجعة أنفسهم، ذلك أن الثورات عادة ما تقوم بتغيير مناهج السياسة، وتعمل على ارساء نظام جديد، مختلف تماما عن النظام السياسي السّاقط، يكون للشعب فيه كلمته الفصل، على اساس أنه صاحب السلطة، وهو وحده صاحب اختيار أسلوبه وطريقه، وليس لأحد وصاية عليه، فكيف به الآن وقد وجد نفسه محاصرا بين جملة من الاستحقاقات الثورية، التي لم ينظر اليها بعين الإعتبار، من طرف أغلب شركاء السلطة الجديدة.
بالإمكان انقاذ بلادنا وردّ الاعتبار لحقيقة ديننا، بتجاوز أغلب الصراعات الحزبية الفارغة، والعودة إلى حضن الوطن، بتقديم مصالحه على مصالح الاحزاب وأهلها وأهواءهم الشخصية والخارجية، ومن دون ذلك، سنبقى على هذه الحال من التجاذبات الغير وطنية حقيقة، وسينهي عاجلا أم آجلا كل اعتقاد بأن اسقاط نظام بن علي، كان بموافقة وتدبير من قوى غربية، لتُقدّم تونس نموذجا قابلا للتطبيق، والمستهدفة منه أساسا سوريا، فهي العقبة الكؤود من أجل اسقاط نظامها، واستبداله بنظام يقوم بتغيير سياسة البلاد من مقاومة وتصدّي، إلى استسلام وعمالة.
ولا يمكن لأي ثورة أن تأخذ موقعها من سلّم الثورات الحقيقية من حيث الأهمية، من دون أن يكون لها إطار فكري وقيادة وهدف شامل، ومن فقدت شرطا من هذه الشروط لا يمكن اعتبارها ثورة، فما بالك بمن فقدت كل هذه الشروط كالفورة في تونس، ولا اقول ثورة، وبليّة الشعب ونخبه المطالب المادية والاصرار عليها، في وقت كان يجب أن يقدّم التضحيات من أجل سلامة دولته، وعلى هذا الساس يجب أن تعدّل نظرة هذا الشعب لتدارك ما فات من أخطاء وتصحيحها، والا ستصبح تونس يوما مبغى أمريكا بريطانيا ومن ورائهم الكيان الصهيوني، يعبثون بنا كيفما أرادوا، في ظل غياب وعي وطني، يمنعنا من السقوط في شراك أعداء الشعوب الحقيقين، وليت الشعب وطلائعه الثورية الحقيقية، يستفيقوا من غفلة تسرّب أسباب تسلل أعدائنا، فيوقفوا تغلغلها بيننا ويحبطوا مخططاتهم في بلادنا.
منطقة المرفقات