ما هي وسائل بقاء الدول والشعوب، بعيدا عن أطماع الدول الاستعمارية، دون أن تعود كما كانت من قبل، لقمة سائغة في أفواه الطامعين بمُقدّراتها؟ هناك عاملان أساسيان مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطا عضويا، بحيث لا ينفكّان عن بعضهما بأيّ حال من الأحوال، العامل الأوّل منح الشعب مساحة من الحريّة، تمكّنه من القيام بواجباته نحو وطنه وقِيَمِه، بكامل قناعات أفراده، وهؤلاء الافراد يكون تأثيرهم وفعاليتهم في بناء البلاد كبيرة وإن قلّت أعدادهم، لكنّهم في قدراتهم مُميّزين ولهم تأثير كبير على بقية أفراد الشعب، باعتبارهم طلائهم المُقَدّمين في جميع المجالات وفي كل الحالات.
امّا العامل الثاني، فيتمثل في العمل من أجل تحصين الجبهة الداخلية للبلاد، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وأمنيا وعسكريا، ولا يمكن حفظ مكتسبات البلاد من دون أن تتزامن هذه الإعتبارات التنموية مع بعضها في نفس الوقت، فلا تتأخر واحدة عن الأخرى، فتحدث خللا يستغلّه الأعداء، حرّية الشعب في أن يصنع بنفسه من مستقبله صرحا عاليا، دون تدخّل من أحد من القوى الغربية المعادية له، من مقدّمات نجاح مسيرته نحو بلوغ القدرة على فرض سياسته التي اختارها عن قناعة كما حصل للشعب الإيراني عندما اختار في استفتائه المشهور نظام حكم إسلامي(1)، لم يكن مُتَوقّعا في ظلّ خمول الشعوب الإسلامية وقادتها، وتقاعسهم عن تحقيق هدف طالما غُيّب عنها، ولم يعُد له مكان في حياتها.
ليس سهلا أن يحافظ أيّ شعب على مكاسبه السياسية، التي أسهم في صناعتها، تحت ظلّ قيادة وطنية حكيمة، وهو معدوم الإمكانيات الإقتصادية، وفاقد لوسائله الدفاعية، وغير حاضر في مسائله الأمنية الداخلية والخارجية، وهذا ما ينقص غالبية الشعوب المسمّات بشعوب العالم الثالث، التي بانت نقائصها في تكامل منظومة، تؤهّلها لبلوغ ما تصبو إليه من رُقيّ وسؤدد، وقد عرّفنا التاريخ المعاصر، فشل شعوب في النجاح في مسيرتها التنمويّة، بسبب فقدان عوامل منافسة الشعوب المتقدّمة.
يمكننا بعد الذي بسطناه في هذا الإطار، أن نستعرض أمثلة من الشعوب الناجحة والصامدة في وجه قوى الاستكبار العالمي المعادية لها، حتى تنال حقّها من التعريف، وهي جديرة به نظرا لكونها قطعت في مسيرتها نحو عزّتها أشواطا صعبة، وتخطّت عراقيل كثيرة ليس من السّهل على أي شعب لا يمتلك حرّيته الحقيقية أن يجتازها، فكوبا على سبيل المثال رغم قربها الجغرافي من أكبر قوة استكبارية، مارست من الحصار عليها بكل قسوة، والتهديد العسكري لها، لكنّها بقيادتها الوطنية نجحت أوّلا في تحويل كوبا من بلد عميل تابع لأميركا، إلى بلد حر ومستقل بواسطة قيادته الحكيمة، بعد ثورة شعبية قادها فيديل كاسترو ضد الدكتاتور باتيستا، (2)وكانت باكورة تحرّر دول أمريكا اللاتينية من الهيمنة الأمريكية.
لا يمكن لأيّ شعب أن يُحقّق ما حقّقه الشعب الكوبي والإيراني، من دون أن تكون له أوّلا: قيادة حكيمة نابعة من الشعب وحاملة همومه وآماله وثانيا: عزيمة راسخة في خوض صراعه المصيري، من أجل تغيير حاله، من شعب مسلوب الإرادة، منقاد لغيره من دول الاستكبار العالمي، إلى شعب حرّ، يمتلك مقاليد حكمه بنفسه، دون تدخّل خارجي، من شأنه أن يؤثّر في قرارات حكومته ومصيره المستقبلي.
في هذا الاطار من الحرّية خاض الشعب الإيراني انتخاباته لمجلس الشورى الجديد ومجلس خبراء القيادة التي دارت في أجواء أمن واستقرار كبيرين، فقد افتتح يوم الجمعة 1/3/ 2024 59 الف مركز في 31 محافظة إيرانية الدورة 12 (3) (وأفاد مراسل RT بأنه وفق النتائج النهائية للانتخابات التشريعية في إيران، فإن 245 مرشحا من أصل 290 تسلموا بطاقات الدخول إلى البرلمان في المرحلة الأولي و45 أخرين بانتظار جولة الحسم في أبريل القادم، الحصيلة توضح بأن التيار المحافظ حصد أغلبية مقاعد البرلمان يليه المستقلون ونحو 30 مقعدا للإصلاحيين”.
وأغلقت صناديق الاقتراع في إيران أبوابها أمس الأول السبت وباشرت اللجان فرز الأصوات في الانتخابات البرلمانية بدورتها الـ12، وانتخابات مجلس خبراء القيادة في دورتها الـ6.
ووفقا لوكالة “مهر” الإيرانية فقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 41%، وفي طهران تحديدا بلغت 24%، وتم بث سير عملية فرز الأصوات عبر القنوات التلفزيونية بشكل مباشر لأول مرة في تاريخ إيران.
وبحسب وزارة الداخلية الإيرانية، يبلغ عدد الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات البرلمانية ومجلس خبراء القيادة في الدورة الحالية 61 مليونا و172 ألفا و298 شخصا، في حين يبلغ إجمالي عدد المرشحين 15 ألفا و200 مرشح لانتخابات مجلس الشورى و144 مرشحا لانتخابات مجلس خبراء القيادة.) (4)
بحصول أوفياء النظام، المحافظين على مبادئ الثورة وقائديها، الراحل الامام الخميني والحالي الامام الخامنئي، على أغلبية مقاعد مجلس الشورى ب 215 مقعدا، في انتظار دورة الإعادة ل45 مرشحا، لم يتمكنوا من حسم مشاركتهم في الدورة الأولى، يبدو المشهد البرلماني الإيراني، أكثر تناغما وتوازنا واستقرارا للوضع الداخلي وتحدّياته الأمنية والتنمويّة، والأحداث الخارجية وتحدّياتها المصيرية، وفي مقدّمتها طوفان الأقصى بغزّة والقضية الفلسطينية ،التي حمل همومها وآمالها الشعب الإيراني وحكومته التي التزمت مبدئيا، على مناصرة الشعب الفلسطيني.
ويتكرّر في هذا المجال السياسي، مشهد هيمنة أنصار النظام الإسلامي على الساحة الداخلية لإيران، مُبَرْهنا على شعبيّة كبيرة، طالما حاول أعداء هذا الشعب ومناوئي خياراته السياسية افشالها بمؤامراتهم، وفي كلّ مرّة تعطي يعطي الشعب الإيراني مثالا لالتزامه السياسي، ووفائه لثورته وشهدائه، ويقدم درسا في مجال ديمقراطي الحقيقي، غير الذي تدّعيه دول الغرب من ديمقراطية مزيفة، يسيطر عليها المال الفاسد، وتتلاعب بها الدعايات الكاذبة، وفيما تمضي ايران نحو النجاحات والتفوق، تتراجع أسهم دول الغرب بفقدهم ثقة شعوبهم، وكلما تقدمّ بهم الزمن اكتشفوا أنهم ومصالحهم في واد وحكوماتهم في واد آخر.
محطّة أخرى سياسية استحقاقية اجتازتها ايران بحاضنتها الشعبية الموالية والوفيّة لنظامها، أسقطت دعايات عزلة النظام الإسلامي، وهو بهذا المقدار الكبير من التحصين الشعبي، الذي لم تبلغه دولة من الغرب، ودليل آخر قدّمه قوم سلمان للعالم، لنسأل الغرب المتعجرف: أين ذهبت جهوده في مشروعه الخبيث الفاشل، في اسقاط النظام الإسلامي في إيران؟ بلا شك لن يجرّ جوابا، وهو بقواه المجرمة كالأعمى في غابة شائكة.
المراجع
1 – الإستفتاء الدستور الإيراني ديسمبر 1979 https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – الثورة الكوبية https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – انطلاق انتخابات مجلسي الشوري وخبراء القيادة في إيران
https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=66240&cid=116
4 – الانتخابات الإيرانية.. التيار المحافظ يحظى بالأغلبية البرلمانية
https://arabic.rt.com/world/1544014-