فتحي بوليفه: أستاذ باحث في الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة |
دقاش مدينة واحية تنتمي إداريا إلى ولاية توزر بالجنوب الغربي التونسي، تمّ في 25 ديسمبر 2019 إعلانها مدينة سياحية، على غرار مدن توزر ونفطة وتمغزة بنفس الولاية، بطلب من المجتمع المدني لهذه المدينة ومجالسها البلدية المتعاقبة.
تتميز هذه المدينة بعدة مقومات طبيعية وتاريخية وثقافية تتفرّد بها عن بقية المدن السياحية بالجريد (توزر ونفطة) يمكن استثمارها في النشاط السياحي كشط الجريد ومهرجانه وجبل الشارب والحديقة الوطنية بدغومس وعدة مواقع أثرية مهملة ومهمشة وتظاهرات ثقافية تقليدية يمكن تثمينها سياحيا. لكن هل تكفي هذه المقومات لبعث نشاط سياحي متكامل في غياب بنية تحتية ووحدات فندقية لاستقبال السياح؟
خريطة موقع معتمدية دقاش بولاية توزر
تفتقر هذه المدينة إلى التجهيزات وجل أصناف وحدات الإيواء السياحي، رغم أنها كانت تمثل منذ الستينات من القرن العشرين مدينة لسياحة العبور من دوز وقبلي نحو مدن توزر ونفطة وتمغزة، وكانت تصنف في كل أمثلة التهيئة الترابية الجهوية مدينة صناعية. حتى وجود بعض وحدات الإيواء أو التنشيط السياحي المحدودة، يعود إلى مبادرات منفردة من سكان الجريد وأغلبها لم يتحصل على تراخيص من وزارة السياحة.
يحتاج النشاط السياحي إلى إطار وتجهيزات وخدمات حضرية ملائمة لا تتوفر حاليا بهذه المدينة التي استمرت لفترة طويلة مدينة تبيعة لمدينة توزر في تجهيزاتها ومجرد منطقة عبور للسياحة الصحراوية، رغم أن موقعها الجغرافي بين قطبي السياحة الصحراوية دوز وتوزر يوفر لها فرصا للاستفادة من عبور أعداد كبيرة من السياح وافدين من المناطق السياحية الساحلية. من أهم العوائق التي تحول دون تحقيق تلك الاستفادة محدودية شبكة النقل ووسائله التي تربطها ببقية المدن الكبرى بالبلاد، كغياب رحلات منتظمة عبر الحافلات تربطها بالمدن الساحلية المصدر الرئيسي للسياح الأجانب والسياحة الداخلية والتعطل والتوقف المستمر لخط السكة الحديدية الذي يربطها أيضا بأهم المدن الكبرى. تشكو شبكة النقل أيضا سوء تخطيط السلط الجهوية التي أنجزت طريقا حزامية جنوب واحة دقاش “تتحاشى” المرور عبر هذه المدينة وتعزلها وتحرمها من الاستفادة من عبور السياح من دوز نحو توزر.
و بالعودة لمحدودية التجهيزات والأنشطة السياحية، استنتجنا أن جل الوحدات الإيواء والتنشيط السياحي بهذه المدينة لا يتمتع بتراخيص من وزارة السياحة للنشاط، باستثناء مخيم نادي بدوينا الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1988. كما لاحظنا غياب الصيانة لهذه التجهيزات، خاصة بعد توقف نشاطها في السنوات الأخيرة بسبب تراجع توافد السياح على المنطقة التي صنفت منطقة حمراء من طرف عدة بلدان بعد تتالي العمليات الإرهابية بالبلاد وبسبب انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا، مما تسبب في تدهور حالتها.
الإقامة الريفية “دار نانو“
كما يبدو تدخل بلدية المدينة لتهيئة وصيانة وتنوير الطرقات والمسالك المؤدية إلى تلك الوحدات محدودا جدا. حتى خدمات رفع القمامة بهذه الوحدات يقوم بها المشرفون على إدارتها على نفقاتهم الخاصة. عبّر هؤلاء على امتعاضهم من لامبالاة المجلس البلدي المنتخب حديثا، ولما سألت هؤلاء كيف يثمّنون دور هذا المجلس في إعلان دقاش مدينة سياحية، أجاب أغلبهم أن غرض هؤلاء لا يتعدى الاستفادة من الأموال التي ستمنحها وزارة السياحة عن طريق صندوق حماية المناطق السياحية للبلدية، خاصة أن القناعات الإيديولوجية لأغلب أعضاء هذا المجلس تتعارض مع توسع النشاط السياحي بهذه المنطقة، الذي يهدد الأخلاق الحميدة وينذر بانفتاح مجتمعها المحافظ على سلوكات غربية تهدد القيم الاسلامية، حسب رؤيتهم.
تقييمنا لمدى تثمين المقومات المناخية بهذه المنطقة، أبرز تركيزا شديدا لوحدات استقبال السياح ووكالات الأسفار على إرسال وفود السياح إلى هذه المنطقة خلال فصول الخريف (تزامنا مع موسم جني التمور) والشتاء والربيع (العطل المدرسية للسياحة الداخلية) تزامنا أيضا مع ملاءمة الظروف المناخية وبتوافد أقل أهمية أثناء احتفالات رأس السنة الميلادية. ورغم الاستفادة من فائض طفرة توافد السياح الأجانب على السياحة الشاطئية في فصل الصيف في شكل رحلات استكشافية للجنوب التونسي، تبقى الوحدات السياحية شاغرة لفترة طويلة من السنة، خاصة في السنوات الأخيرة (بعد 2011)، مع التراجع الكبير في توافد السياح الأجانب على السياحة الشاطئية التي استفادت من سياحة الجزائريين (بديلا لتوافد السياح الأوروبيين).
أما تقييمنا لمدى تثمين بقية المقومات الطبيعية، فقد أبرز خاصة محدودية استغلال المياه الحارة في مشاريع للسياحة الاستشفائية بواسطة المياه المعدنية، رغم تعدد الدراسات المحلية والدولية التي تحث على تثمين تلك الثروة المائية في مشاريع الطب البديل، خاصة أن مثل هذه المشاريع لا تواجه منافسة مثل السياحة الاستشفائية التي تعتمد على مياه البحر بالمناطق الساحلية التي تواجه منافسة عدة بلدان في العالم كفرنسا. تتميز مياه أعماق هذه المنطقة بارتفاع نسبة الأملاح المعدنية بها وبوفرتها كما تمكن رسكلتها وإعادة استغلالها في القطاع الفلاحي.
أما تقييمنا لمدى تثمين المقومات الثقافية، فقد أبرز إصرار المعهد الوطني للتراث على تهميش المواقع الأثرية بهذه المنطقة بالإرجاء المتواصل للحفريات، رغم توفر عدة دراسات وبحوث تعود حتى للحقبة الاستعمارية تؤكد ثراء المخزون الحضاري والآثار التي تغمرها الرمال. والتهميش الذي يعاني منه موقع الكنيسة البيزنطية الذي تم اكتشافه أخيرا أكبر دليل على عدم اكتراث هذا المعهد بالمخزون الأثري لهذه المنطقة، حيث تأخرت الحفريات به أكثر من 17 سنة، وقد تعرّض للتخريب من طرف بعض المنحرفين الذين يعتقدون أنه يحوي الكنوز. ينطبق هذا الاستنتاج أيضا على موقع قبّه الذي يعتقد أنه مركز مدينة دقاش Thiges القديمة، الذي بقي مهملا وسط واحة المحاسن لأسباب عقارية، حيث يعارض مالكو الواحة التي يمتد بها هذا الموقع الحفريات. بالإضافة إلى بعض الآثار الرومانية والبيزنطية والإسلامية، توجد بعض المواقع الأثرية التي تعود للحقبة الاستعمارية الفرنسية كبرج مرتيل ومعصرة قديمة مهجورة بالضيعة الفلاحية العمومية التابعة لمركز التكوين والرسكلة الفلاحية وبعض المنشآت المائية الواحية القديمة التي تعود للعهدين الأمازيغي والروماني (فقارة Foggaras) على تخوم شط الجريد. كما تفتقر المواقع القليلة التي تم اكتشافها إلى أبسط تجهيزات الإرشاد ومرشدين سياحيين أكفاء.
يبرز الثراء الثقافي لهذه المنطقة أيضا من خلال ثراء عاداتها وتقاليدها الذي يعكسه خاصة تعدد التظاهرات الدينية والمهرجانات التي يحتفل بها سكان هذه المنطقة، رغم غياب التنظيم في أغلبها بسبب تعدّد المتدخلين وعدم تدخل المندوبية الجهوية للثقافة لتنظيمها، باستثناء تدخلها في تنظيم مهرجان سيدي بوهلال الذي تعجز أحيانا عن إدارته نتيجة لتوافد أعداد ضخمة من الزوار، مما يتسبب في فوضى عارمة.
تشكو الحديقة الوطنية بدغومس أيضا عدة نقائص بدءا بصغر لوحات الإرشاد التي لا تكاد تقرأ ورداءة المسلك المؤدي إليها الذي تجرفه مياه سيلان الأودية في عدة أجزاء.
كما لم يتم حتى الآن إدراج هذه الحديقة ضمن الدورة السياحية للجنوب التونسي التي تنطلق من جزيرة جربة نحو الجنوب الغربي، حتى أن كثير من وكالات الأسفار المحلية والدولية لا تعلم بوجودها، بسبب غياب الدعاية الكافية، حتى لدى وسائل الإعلام التي تهتم بالسياحة البيئية والثقافية في العالم. من الممكن أيضا أن يساهم تنوعها البيولوجي في استقطاب العلماء والباحثين في المجال الجغرافي والبيئي.
سعي مدينة دقاش للإندماج في الدورة السياحية للجنوب الغربي التونسي والنشاط السياحي الوطني عموما، أمر مشروع، لكن وجب الاستعداد له وتوفير بنية حضرية وسياحية تضمن هذا الاندماج لتحقيق التنمية المحلية لمدينة تفاقم حملها الحضري والتنموي بعد توسعها على القرى الأربع القريبة منها وتفاقمت تبعيتها لمدينة توزر في كل التجهيزات والأنشطة، حتى السياحية. النمو المحتمل للسياحة في هذه المدينة، قد يدعم وحدات الإيواء والتنشيط السياحي المركزة بالمدينة، لكن أهميته تكمن أكثر في استغلال وتثمين موارد أخرى تميز هذه المدينة، دون إلحاق الضرر ببيئتها الهشة.