“وإذا قِيل لهم اتّبِعوا ما أنْزل الله قالوا بلَ نتّبع ما ألْفَينا عليه آباءَنا أوَلوْ كان آباؤُهم لا يعْقِلون شيئًا ولا يهتدُون” ( البقرة، 170).
تعتبر “موقعة الجمل” أو معركة الجمل من أبرز المحطات التاريخية التي أجّجت الفتنة الكبرى بين المسلمين (بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان 35هـ) حيث اقْتَتل فيها المسلمون في البصرة ( 36هـ/656م) بين مؤيدي علي ابن أبي طالب وبين جيش طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنها، والتي ذهب ضحيتها قرابة 18 ألف مقاتل بين الفريقين. وكان لهذه الفتنة أثر كبير في تغيير مسار التاريخ العربي والإسلامي، فتسببت في انشغال المسلمين بقتال بعضهم البعض عوض قتال الأعداء، وكانت من أبرز نتائجها قتل آخر الخلفاء الراشدين ( عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب) وبداية تأسيس دولة الملك مع معاوية بن أبي سفيان.
ما حدث بمجلس “العرائس المتحرّكة للارهاب” في تونس منذ يومين ــ 7ديسمبر ــ يذكّرنا بهذه الواقعة في تاريخ المسلمين، وتؤكّد لنا أنّ تونس تمر بمرحلة تاريخية خطيرة من الفتنة السياسية التي بدأت تعصف بوحدة المجتمع التونسي وبهيبة مؤسّسات الدّولة وبرموزها (الرئاسة والقضاء ومجلس النواب..) وما نعيشه يوميا، وفي كل ساعة، من معارك ومشاهد من النّطيح السياسي ( الناعم والخشن) بين ممثلي بعض الأحزاب السياسية المأزومة ( حركة النهقة الاخوانية وحلفائها ) ومنافسيهم الجدد في ظل انهيار الأحادية القطبية البرلمانية والسياسية في تونس بعد انتخابات 2019 ، ومع بداية تشكل التعددية القطبية الجديدة. ومن تجليات هذه الفتنة ومسلكياتها انفلات الخطاب السياسي لدى الأحزاب الارهابية من أية ضوابط أخلاقية وروح وطنية وعدم التزامها بالحد الأدنى بالمسؤولية الوطنية، ليتحول خطابها إلى هذيان لساني وألاعيب قذرة تعبر عن فراغ أدمغة أصحابحها وضحالة عقولهم وحالة الهستيريا التي أصبح يعيشها هؤلاء الارهابيون لما ضاقت أمامهم السبل وكُشفت أوراقهم أمام الرأي العام. ولأنّ بصائرهم عمياء، فقد غاب عنهم الرشد في اختيار المفردات في تفاعلهم مع الآخرين نتيجة وصولهم إلى الطريق المسدود في كذبهم على مدى العقود الماضية وفشلهم في تشويه خصومهم، وباتت مواقفهم لا تتعدّى ردّات فعل المراهقين السياسيين، حتى أصبح مجلس النواب “محل اللّعنة” من الجميع، في داخل البلاد ومن خارجها( دون أن ننفي وجود نواب شرفاء يعبّرون عن مطالب الشّعب).
هذا الخطاب الإسلاموي الاخواني الذي يحمل شحنة طائفية وفتنويّة اغتالوا به مبدأ الاختلاف، وقتلوا به الحقائق أمام أعين الناس. ونتيجة فشلهم في تحقيق أية إضافة في حياة المجتمع على مدى عشر سنوات، تحوّل خطابهم السياسي إلى شكل من أشكال الهستيريا حتى وصل إلى مستوى الوباخة والهذيان الذي تحركه الحاجات النفسية اللاشعورية ( عقد الفشل والشعور بالنقص وتوهّم امتلاك القوّة..) في محاولة منهم لتملك المجتمع فيزيائيا والاستئساد به، لما فشلوا في تملكه معنويا ورمزيا، خاصّة لما نقرأ خطاباتهم الأخيرة الموجّهة إلى قواعدهم باعتبارهم شعروا باختلال توازنهم الداخلي ( الاستقالات لبعض رموزهم وانسحاب بعض قواعدهم) وتأكدوا من قلب المعادلة في تشكيل الحكومة وعدد من الهياكل الدستورية، وتحقيق التوازن النّسبي بين السّلط الثلاث التي كانت مختلة في السّنوات الماضية.
ذكر “كيت داوت” في كتابه “فهم الشرّ: دروس من البُوسنة” أنّه من خلال خطة منسقة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع ونتائجها الأكثر وحشية تتضمّن تدمير التّضامن ومكوّنات الهوية الوطنية، وأسس تنظيم العائلة، وبنية المؤسّسات السياسيّة والاجتماعية، ووعي الذات لكي يصبح الارتياب وسوء النيّة ــ التخوين والاتهامات الباطلة ــ التوجّهين السائدين لدى الناس. ومن ثم تعمّ مشاعر الاغتراب واليأس والكآبة والقلق والمشاعر السلبية بين الناس، وتنقلب أسس حياتهم الخاصة بصورة عاصفة، لأنّ أسس الرّوابط الاجتماعية والثقافية والدينية قد حُرِثتْ ، بل قُلِبت تمامًا رأسًا على عقب. وهذا ما يتطابق مع الخطة أو السيناريو الذي وضع في مراكز الأبحاث الغربية، خاصة الأمريكية في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، بعد دراسة المجتمعات العربية التي يراد تمزيقها إلى طوائف لكي تسهل عملية إبادتها. ففي هذه الخطة لا يتم تدمير البيوت فحسب، بل يتم تدمير هيبة المنزل؛ لا تتم مهاجمة مجموعة من الناس فحسب، بل يتم الاعتداء على تاريخها وذاكرتها الجماعية، فشوهوا الدين وفككوا هويتنا الوطنية والعربية الجامعة. وعمل هؤلاء المنافقون منذ 2011 على احتلال الميادين العامة، وإثارة “الغبار الإعلامي” وتعبئة الحشود الجماهيرية وهندسة مزاجها على إيقاع “فقه الفتنة” ــ في جميع تجلياتها وأبعادها ــ لإرباك مؤسّسات الدولة تمهيدا للوصول إلى قلب الهدف، وتحويل وجهة الأوضاع السياسية في أقصر فترة زمنية ممكنة، وإنتاج حالة سياسية جديدة بطريقة قيصرية تقوم على تفكيك رمزيّة مؤسّسات الدّولة ووحدة الوطن وتأسيس الطائفية السياسية وتحويلها غلى حقائق ثابتة.
لقد تحولت الحرية في التعبير بالنسبة إلى هؤلاء الارهابيين إلى حرية عابِثة تعبّر عن أزماتهم المركّبة في أبعادها الأخلاقية والدينية والثقافية والسياسية، حتى أصبح الحياء والأخلاق عندهم نقيصة ومرضا نفسيا، بعد أن كان شعبة من شعب الإيمان. لهذا، ليس من المفاجأة أن يحرّكوا بركان هوياتهم السياسية المأزومة رامين بحِمَمه في وجه نواب الشّعب المُسالمين الذين يريدون استعادة روح وطنهم وسيادة دولتهم. فما ننتظر ممن قطعوا الرقاب ودمّروا المؤسّسات باسم الشرعية الانتخابية غير التخريب “النّاعم” للعقول والأفئدة! إن تاريخ الإخوان الارهابيين ــ منذ 1928 ــ شاهد على أحداث كثيرة لم يستعملوا فيها الدّين إلا سلاحًا أو وسيلة لنيل غرض سياسي فِئوي، فكان بالنّسبة إليهم ستارا تختفي وراءه أغراضهم الخبيثة في خيانة الوطن ونشر الفتنة بين أبنائه واستعمال جميع أشكال المديح للحماقة السياسيّة والمبتذلات اللسانية والأعمال الارهابية التي لم تشهد تونس في تاريخها مثيلاً لها.