«العبودية الطوعية» مصطلح ظهر أول مرة في كتابات الفيلسوف والمحامي والقاضي والكاتب الفرنسي «إتيان دي لابويسيه» منذ ما يقرب من خمسة قرون، وهو مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وأول من أوجد النظرية الفوضوية، ولد لابويسيه في (1 تشرين الثاني 1530) وتوفي في (18 آب 1563) عن عمر لم يتجاوز 33 عاماً، لأسرة أرستقراطية وكان والده من رجال الكنيسة المهتمين باللاهوت والأدب، وعلى الرغم من دراسة لابويسيه القانون إلا أنه كان مولعاً بالشعر والأدب، لكن تظل مقالة في «العبودية الطوعية» من أهم أعماله إن لم تكن الوحيدة التي اشتهر بها ليس خلال حياته القصيرة لكن بعد وفاته.
فمن الأرجح أن لابويسيه قد قرأ المقالة على بعض أقرانه في جامعة أورليان التيكانت ثاني أهم الجامعات الفرنسية بعد جامعة باريس، وأعجبوا بها واستنسخوها فيما بينهم، لكنها لم تنشر حتى عام 1576 بعد وفاة لابويسيه، ولم تلقَ اهتماماً كبيراً بسبب استتباب الحكم الملكي خلال القرن السابع عشر ما جعلها نصاً لا تلتفت إليه إلا قلة من القراء، وكان قدرها ألا تظهر منشورة إلا في ظل مقالات صديقه الفيلسوف والمحامي والكاتب الفرنسي «ميشيل دي مونتين» أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيراً في عصر النهضة الفرنسية، ورائد المقالة الحديثة في أوروبا الذي ولد في (28 شباط 1533) وتوفي في (13 أيلول 1592) والذي نسب بعض النقاد المقالة إليه شخصياً، لكن في عام 1835 نشر النص منفرداً منسوباً لصاحبه وهو لابويسيه.
وفي مقالة «العبودية الطوعية» يهاجم لابويسيه النظام الملكي المطلق ويصفه بالطغيان ويدعو لمكافحة الديكتاتورية، وفي حديثه عن «العبودية الطوعية» يؤكد أن «الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاها لهم، فعندما يتم التخلي عن الحرية مرة واحدة من الشعب، ويبقى متخلياً عنها حيث يفضل الشعب الرق على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع»، وتالياً يربط لابويسيه الطاعة والهيمنة معاً، وهي العلاقة التي كونت مع مرور الوقت «النظرية الفوضوية»، التي تدعو إلى إيجاد حلول للتخلص من الهيمنة والانصياع ورفض دعم الطاغية، وبذلك أصبح لابويسيه أحد أقدم دعاة العصيان المدني والمقاومة بلا عنف، نتج عنها الشعب الفرنسي الذي يرفض الهيمنة والانصياع للحاكم مهما تحققت له من سبل الرفاهية، فهو مواطن يطمح دائماً إلى مزيد من الحرية، ولديه من الوعي ما يمكّنه من ممارسة العصيان المدني والمقاومة بالعديد من الطرق السلمية.
على العكس تماماً فإن «العبودية الطوعية» تنطبق على الكثير من شعوبنا العربية، كما طرحها لابويسيه، خاصة عندما يؤكد أنه «عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج الحرية وتتلاءم وتتكيف مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه «المواطن المستقر»، وهذا المواطن المستقر لا يشتبك مع واقعه، وغير قادر على النقد، ولا يهتم بالشأن العام، ولا يتدخل في الأمور السياسية، وخاضع ومنصاع طوال الوقت لهيمنة السلطة الحاكمة، وغير قادر على المعارضة أو المقاومة».
وفي عالمنا المعاصر يعيش المواطن المستقر في عالم خاص به، وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء هي: الدين ولقمة العيش وكرة القدم.
فالدين مسألة خاصة يتعامل معها كل شخصٍ وفق قناعاته.
ولقمة العيش هي الاهتمام الثاني في حياة المواطن المستقر، فهو لا يعبأ إطلاقاً بحقوقه السياسية ولا يسعى إليها، ويعمل فقط من أجل تربية أطفاله والحصول على ضروريات الحياة لهم حتى يكبروا، يزوج البنات ويشغل الأولاد، ويكون بذلك قد أدى مهمته في الحياة، يذهب يوم الجمعة إلى المسجد أو يوم الأحد إلى الكنيسة للصلاة والقراءة في الكتب المقدسة، ويلتقي في عطلة نهاية الأسبوع بالأبناء والأحفاد على وجبة غداء أو عشاء، كم من مواطنين مستقرين نقابلهم في حياتنا اليومية الآن يفعلون ذلك؟!.
أما كرة القدم فهي الاهتمام الثالث في حياة المواطن المستقر والتي يجد فيها تعويضاً عن أشياء حرم منها في حياته اليومية، فهي تنسيه همومه اليومية والقهر والظلم والاستبداد، وتحقق له العدالة المفقودة، فخلال 90 دقيقة تخضع هذه اللعبة لقواعد واضحة وعادلة تطبق على الجميع، وهو ما يفتقده المواطن المستقر في حياته اليومية فينشغل بها ويتفاعل معها متناسياً ما يحدث له طوال الوقت، كم من مواطنين مستقرين نقابلهم في حياتنا اليومية يفعلون ذلك؟!.
وإذا كان المواطنون المستقرون هم الأغلبية العظمى من سكان مجتمعاتنا العربية الذين ارتضوا «العبودية الطوعية»، فهم بذلك يشكلون العائق الحقيقي أمام أي تقدم ممكن، ولن يتحقق التغيير إلا عندما يخرج هذا المواطن المستقر من عالمه الضيق، هكذا صنع الشعب الفرنسي مجتمعه ومازال يصنعه، فرغم كل ما يقال عن ثورته الملونة الراهنة ومحركيها إلا أنه لا تمكن في أي حال مقارنة وعيه بوعي المواطن العربي المستقر الذي تلاعبت به قوى الشر خلال سنوات «الربيع العربي» المزعوم، اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.
*كاتب من مصر