في منتصف الالفية الثانية المنصرمة، وخاصة بعد “اكتشاف” اميركا، بمشاركة اليهودية العالمية (راجع هنري فورد في كتابه”اليهودي العالمي” تعرضت القارة الافريقية لحملة ابادة عنصرية واسعة النطاق، تمثلت في عملية صيد البشر وبيعهم عبيدا لشحنهم الى اميركا للمشاركة في بناء “العالم الجديد” كيد عاملة رخيصة.
وكان يتم اصطياد الشبان والشابات الاصحاء والاقوياء لسوقهم الى اميركا، في ظروف شحن بالغة الوحشية. والغالبية الساحقة من هؤلاء البؤساء ماتوا من الجوع والتعذيب والامراض قبل ان يصلوا الى اميركا. وكانت جثثهم تلقى في البحر كالنفايات بدون اي طقوس دينية وبدون اي احترام للكائن البشري. ويقول احمد بن بله في كتابه “نحو عالم جديد” ان عدد هؤلاء البوساء الذين تم اصطيادهم بلغ 100 مليون انسان، ولكن اكثريتهم الساحقة ماتوا في الطريق الى العبودية ولم يصل منهم الى اميركا سوى 1/10. ولا حاجة الى القول ان صيد (وابادة واستعباد) 100 مليون من خيرة ابناء افريقيا الشباب ادى الى قطع تطور وتدمير دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في افريقيا. وللاسف ان بعض الحثالات البشرية من العرب شاركوا في هذه الجريمة الكبرى ضد الانسانية كصيادي بشر، او سماسرة او نخاسين.
فهل سيأتي يوم تجبر فيه اوروبا واميركا على دفع التعويضات لافريقيا عن ابادة واستعباد 100 مليون من ابنائها، وتدمير التطور الطبيعي لبيئتها الاجتماعية..سؤال للتاريخ؟
وقبل ان تخلص افريقيا من جائحة صيد البشر، تعرضت لجائحة اخرى ادهى وأمرّ هي جائحة الاستعمار الاوروبي. فخلال انتشارهم في كافة انحاء افريقيا السوداء وانهماكهم في “مهنة” صيد الافارقة الاصحاء والاشداء، كان “الصيادون” الاوروبيون يلاحظون كم هي غنية افريقيا بالاراضي الزراعية البكر وشديدة الخصوبة، وغنية بالثروة الحيوانية والثروات المنجمية، من جهة، ولاحظوا، من جهة ثانية، انه لم تكن توجد في افريقيا السوداء دولة او مجموعة دول مركزية قوية، كما انه ـ وبسبب ضعف وسائل الاتصالات والمواصلات – فإن المجموعات القبلية الافريقية كانت مفككة وضعيفة جدا، وقد زادها صيد البشر ضعفا على ضعف. وهذا يعني ان استعمار هذه الاراضي البكر لن يجد مقاومة شديدة، او لن يجد اية مقاومة من قبل السكان الاصليين. وكان هذا بمثابة “الاكتشاف الحضاري” الثاني لاوروبا الاستعمارية، بعد “اكتشاف اميركا”.
منذ القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر، وجنبا الى جنب حركة الاستعمار والاستيطان وابادة الهنود الحمر في اميركا، اخذت البلدان الاوروبية، صغيرها وكبيرها، تتسابق لاستعمار الاراضي الافريقية “ما وراء البحار”، وتلقي فيها حثالاتها الاستعمارية، وتحل ازماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وخاصة ازمة البطالة والفائض النسبي للسكان، بفعل قوانين التطور الاولي للرأسمالية المتوحشة. وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان قد تم استعمار كل سنتيمتر مربع في افريقيا وتقاسمه بين جميع الدول الاستعمارية الاوروبية، التي اثرت واغتنت على حساب الشعوب المستعمرة، الافريقية وغير الافريقية، وليس بفضل “حسنات” النظام الرأسمالي الذي انتج الظاهرة الاستعمارية العنصرية والوحشية. ولا شك ان الادارة الاستعمارية كانت تواجه المقاومات المتفرقة، الا ان جميع اشكال المقاومة كانت تواجه بالقمع بالغ الوحشية والسحق التام دون ان يدري العالم الخارجي بالفظاعات التي يرتكبها المستعمرون الاوروبيون ضد الجماهير الافريقية المسحوقة. ولتضليل الشعوب الاوروبية، كانت العملية الاستعمارية تجري تحت شعارات التنصير والتمدين، حيث كانت ترسل بعض بعثات التبشير بالكاثوليكية والبروتستانتية، وتبنى بعض المدارس الابتدائية والتكميلية ونادرا الثانوية، التي يتعلم فيها ابناء بعض الافريقيين المطوّعين، بهدف ايجاد موظفين محليين لمساعدة الادارة الاستعمارية.
وفي القرن العشرين قامت الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا، التي سجلت صفحة جديدة في تاريخ البشرية، كما قامت الثورة الصينية، وتم سحق الفاشية والنازية في اوروبا واسيا، واندلعت ثورات التحرر الوطني في جميع البلدان المستعمرة الآسيوية، ووجدت هذه الثورات انعكاسها في كافة البلدان المستعمرة الافريقية، ولم يعد بامكان الظاهرة الاستعمارية ان تستمر لا في افريقيا ولا في غيرها.
واليوم تتمتع الدول الافريقية بالاستقلال السياسي الشكلي وهي اعضاء في الامم المتحدة. ولكنها جميعا ضعيفة وفقيرة، بسبب التفكك القبلي والحروب الاهلية الدائمة التي تشعلها وتديرها الدوائر الاستخباراتية الغربية والاسرائيلية. وهي تتعرض للاستغلال ونهب خيراتها عن طريق اغراقها في الديون وجني الفوائد الفاحشة منها، كما عن طريق النهب المباشر لثرواتها الطبيعية ولا سيما المعادن الثمينة كالذهب والماس. ويجري نهب الذهب الافريقي ببساطة متناهية بالطرق التالية:
ـ يحصل المغامرون والمافيات وحتى العصابات الارهابية التكفيرية على تراخيص لاستخراج الذهب في مساحات شاسعة تبلغ احيانا مئات الكيلومترات المربعة. ويدفع صاحب الترخيص رسما ماليا تافها لخزينة الدولة المعنية.
ـ يتم التنقيب والاستخراج عادة في الاراضي السبخة المشبعة بالمياه، حيث يجري الحفر الى عمق بضعة امتار لتجاوز القشرة الترابية والوصول الى طبقة رمول وحصى صغيرة هي التي تحتوى خامات الذهب، وتستخرج الرمول والحصى بواسطة جرافات ضخمة ويتم غسلها في المياه بواسطة الات خاصة وفصل نثار الذهب منها. ولهذه الغاية يتم استخدام المواد الكيماوية السامة كالسيانيد وحمض النيتريك والزئبق لاجل تجميع نثار الذهب في كرات صغيرة وفصله عن الاتربة والمواد الاخرى.
ـ وفي اغلب الاحيان، وبدلا من استخدام الجرافات وآلات الغسل غالية الثمن، يتم استخدام المنجميين، رجالا او اطفالا، فيتم تحديد مربع يجري فيه حفر عدة حفر عميقة بعمق عدة امتار وبعرض مترين او ثلاثة للحفرة التي تغمرها المياه، ويغطس المنجمي في المياه العكرة في هذه الحفرة كي يصل الى طبقة الرمول والحصى ويحمل كمية منها في قفة معه ويصعد الى السطح ويقوم هو بغسل هذه الكمية وسكب الزئبق عليها لاستخلاص الذهب ثم “يبيع” ما استخلصه لصاحب الترخيص. وما يحصل عليه هذا المنجمي البائس الذي يعرض نفسه للموت مع كل غطسة كما يعرض صحته للتدمير بسبب استعماله للزئبق لاستخلاص الذهب، لا يكاد يكفيه لقوت يومه.
وفي احيان كثيرة تنهار التربة في المربع المعين بسبب كثرة المياه، ويموت المنجميون في حفرهم اختناقا بالتراب المنهار فوقهم، وفي احيان كثيرة تترك جثثهم في مكانها ولا يحصل ذووهم على اي تعويض من اي جهة كانت. ويقول احد المنجميين: انني اغطس كي اطعم اطفالي، ولكن في كل مرة أصلي صلاتي الاخيرة لان نفسي تحدثني انني لن اخرج حيا من هذه الحفرة. وتجدر الاشارة الى ان المواد السامة التي يستخدمها المنجميون لاجل استخلاص الذهب تدمر صحتهم لانها تؤثر على الجهاز التنفسي والرئتين والقلب والكبد والطحال والكليتين. كما ان المياه المسمومة التي يتم شطف الرمول والحصى بها، يتم تصريفها عشوائيا في الاراضي المحيطة بمربعات الاستخراج وفي مجاري الانهار ومصباتها والبحيرات وشواطئ البحار، وهكذا يتم ايضا تدمير وتلويث وتسميم البيئة الافريقية من اجل الحصول على الذهب.
وتجمع الاحصاءات الافريقية والدولية على ان قيمة الذهب المستخرج من افريقيا تبلغ عشرات مليارات الدولارات. ويتم تسجيل قسم صغير جدا من الكمية المستخرجة ودفع الضرائب الجمركية عليها الى خزيبة الدولة الافريقية المعنية. اما القسم الاعظم فيتم تهريبه بواسطة المستخرجين انفسهم او بواسطة الوسطاء والسماسرة وتجار الذهب والمافيات والمنظمات الارهابية التكفيرية. وتشارك شتى الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية وبعض الدول العربية في المتاجرة بالذهب الافريقي المهرب.
وفي بحث لوكالة رويترز ان سويسرا، التي هي مركز عالمي لتكرير الذهب وسبكه، استوردت بقيمة 7.5 مليار دولار من الذهب الافريقي سنة 2016، في حين استوردت الامارات العربية المتحدة بـ 15 مليار دولار. ويقول البحث ان دولة الامارات اصبحت بابا رئيسيا لتوريد الذهب الافريقي المنهوب الى مختلف الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية.
وما ينطبق على الذهب ينطبق ايضا على الخامات والثروات الاخرى الافريقية كالماس والعاج والمعادن والفواكه الثمينة.
وهذا هو احد اشكال النهب الاستعماري لافريقيا والبلدان الفقيرة والضعيفة. وتجني الاحتكارات العالمية الكبرى، الامبريالية واليهودية العالمية، الارباح الاسطورية من هذا النهب، مما يمكنها من تحويل اقتصاد بلدان المتروبول الى اقتصاد خدماتي مالي وتجاري وسياحي وترفيهي وعقاري ومتخصص في الصناعات التكنولوجية رفيعة المستوى، وإلقاء عبء الصناعات الكلاسيكية على البلدان الاخرى.
اصوفيا ـ جورج حداد