لا يريد الغربيون جيرانا عربا ومسلمين أقوياء ببساطة لأن قوة هؤلاء مُضعفة لهم وهم يتعلّمون ويعلّمون مستلهمين من درس الطبيعة الذي ينهلون منه منذ تحييدهم للارث المثالي المسيحي. لكي أبقى يجب أن أضمن القوّة ويجب استتباعا أن أحتكرها وأن أحرم الغير منها. هكذا ينطلقون وعليه لا معوّل على ما يوهمون به من أنّ حرصهم على الأفكار والقيم والمثل وعندما يتناولون مسألة الإسلام والثقافة عموما فهم لا يتناولونها من زاوية علمية ومعرفية وإن كانوا يوظفون لذلك المفكرين والفلاسفة والأكاديميين. هم ينطلقون من اعتبار أنّ وحدة المعتقد الإسلامي عامل قوّة إذا وظّف قد يقوى من يريدون له البقاء في وضع الضعف. هم يتعاملون في مسألة اللغة بنفس الحساسية. قد لا يكون المعتقد عامل قوّة ويضخمون الأمر مرضيا ولكنّهم ينظرون اليه هكذا ويتوجسون منه على هذا الأساس.
لو كانت ديانة هندوسية منتشرة بيننا عوض الإسلام لكان موقفهم هو ذاته ورأوا في الهندوسية خطرا داهما. أردت التأكيد على مسلّمة أنّ الغربيين عندما يفكّرون يفكّرون براغماتيا ووظيفيا منذ فترة طويلة. المفكّرون الذين يفكّرون منطلقين مغامرين بحثا عن الحكمة والحقيقة قلّة ويندثرون تباعا ومن بقي منهم يهمّش ولا يمتدّ اشعاعه خصوصا مع سيطرة الإعلام وتحكّم لوليات النفوذ وغلبة المصلحة غلبة قاهرة. المفكّر الغربي وربّما رغما عنه يفكّر لوزير الدفاع ولمدير المخابرات ومستكرشي الشركات.
الآن وبالنسبة لضفّتنا بما نحن بعين الغربيين آخر، كيف علينا أن نسلك؟ عندما يقول الغرب أنّ الإسلام سيء ومضرّ وأنه خطر كيف نتصرّف? اذا قلنا ما يقول نصبح ببغوات مع حمق قد لا تقدر علبه الببغوات. اذا قلنا بمنطق ردّ الفعل وثورة الغريزة عكس ما يقول الغرب نكون في كثير من قصر النّظر والغرب أول من يستفيد من خلاصاتنا المتسرّعة والمتشنّجة. عندما ينقد الغربيون الاسلام فليست حساباتهم معرفية فكثير من مواطنيهم الغربيين يتميزون بموقف معرفي متوازن من الاسلام ومفاهيمه ورؤيته ولا أثر لهم في تلفزة واذاعة وصحف. نقد الغرب للإسلام نقد بنيّة النّسف. ويمكن أن نفهم هذا في العلاقة بما أشرت اليه من حسابات القوة والضعف وحرص الغربيين على احتكار القوّة. ما لا يُفهم هو أن تكون علاقة التونسي والعربي والمسلم بالإسلام علاقة نسفية، علاقة اعدام له متدثرة بالنّقد.
هناك مجهودات نافعة ومحاولات متينة لمسلمين هي بحق نقدية لا تحنّط موروثا ولا تقدّس مرويات ولا تذعن لهوى فقيه وسلطان. هذا مطلوب ومن يرفض مثل هذا الجهد من المتدينين إنما ينسف الاسلام بجعله بصطدم مع الذوق والعقل. من يحرص على الظهور بين غربيين وخصوصا الفرنسيين منهم للحديث عن الاسلام وما فيه لا يبني معرفيا وبرغبته أو من دون رغبته هو يساهم في نسف رخيص، رخيص بحساب المليم ورخيص بحساب الإضافة الى الذكاء البشري. عندما يطلب الفرنسيون موقفا من الاسلام أطلب منهم موقفا من يهودية اسرائيل التي يدعمونها بكلّ الوسائل. هنا وهناك دين ولا بأس من حديث من دون محرّمات أما الحديث مع فرنسيين يحرمون الحديث في اليهودية واسرائيل، الحديث معهم في الاسلام فالرأي عندي أنه موقف يفضح قلّة المسؤولية والأمانة. قد أقول عندهم ما اراه يستقيم معرفة ونقدا متينا وحجة قوية ولكنني بحضرتهم أصبح من ضمن مكينة نسف لا علاقة لها بمعرفة وحقيقة وكل علاقتها بالنفوذ وادامة الهيمنة وتأبيد السيطرة.
في بلدي وأي بلد آخر يكون عربيا أو اسلاميا يمكن أن آخذ كلّ حريتي في نقد مدونة وتشكيك في خلفاء وصحابة ودحض روايات والسخرية من أراء متدينيين. أكون في كلّ ما يقتضيه النقد ويطلبه البحث الصّارم. أعرف أنّ وضعا كهذا لا يريح صاحبه ولكن سبيل المعرفة فيه من فقدان الراحة وتحمّل الأذى. مشكلتنا، في تونس خصوصا، أنّ المتدينين في أغلبيتهم يعجزون عن النقد ولقد رأينا خلال السنوات الماضية كيف أنّ القادر منهم عليه ينتكس وينحدر الى طائفية وتكفير. هم قادرون عليه بما يمتلكون من وسائل معرفة ومنهج ولكنهم دونه قناعة وروحا ونفسا. هذا نصف المشكل ونصفها الآخر أنّ جلّ من يمارسون النّقد يمارسونه بغاية النّسف لأنهم ببساطة لا يؤمنون. هم أحرار عندما لا يؤمنون ولكن من الأمانة التصريح عند الشروع في بحث نقدي قول الباحث انّ منطلقاته ليست ايمانية. هل اذا أتى هذا يخاف من التكفير؟ ليكن تكفير وأين المشكل. التاريخ الطويل يشهد أنّ من يفكّر بجرأة بكون زنديقا او كافرا أو مجنونا.
بشيء من الصورة والتلخيص: محمد الطالبي رحمه الله كان بعين جماعة النّسف خوانجي وكان بعين الخوانجي زنديق. انا أراه مؤمنا مفكّرا. هنا المشكلة ففي قاموس الفرنسيين لا يكون المرء مؤمنا ومفكّرا. هو اذا بدأ التفكير كفر وهو اذا عجز عن التفكير آمن. هذا معنى خروج فرنسا العظيمة من ظلمة الى نور وإلا هل نقول أنها وهي العظيمة خرجت من نور الى ظلمات؟
ملاحظة: تابعت مقتطفا من فيديو لهالة الوردي وهي زميلة وصديقة في برنامج على قناة فرنسية. ما أقوله هنا يتجاوز هذا التفصيل طبعا. نحن في هذا منذ عقود ونعيد انتاج نفس المشهد وليست المشكلة في من يؤثثونها من هذا الجانب او ذاك. المشكلة في المشهد بكلّيته. فرق شاسع عندي بين أن أقرأ ما تكتب وليس ما تكتبه خال من القيمة العلمية كما ذهب الى ذلك من لا احب ذكره لانه أساء للاسلام اكثر من الذين يتهمهم بالتعدي على الاسلام. فرق بين أن أقرأ وبين أن أراها تحضر مجلس اعلام فرنسي لم يهتمّ يوما بمعرفة وحقبقة فهل يهتمّ عندما بكون حديث عن الإسلام.