الشّباب التونسي بين المافيا الاقتصادية وتفكك مؤسّسات الدولة: حصاد التبعية

 د. مصباح الشيباني |

ارتبط مصطلح “المافيا” (Lobbing) بالجريمة المنظمة والخروج عن القانون في أشد صور هذا الخروج خطورة وقوة. ويعود هذا المصطلح إلى أصول اللغة الإيطالية ويعني به الجسارة وتقدير الذات لغاية الاعتداد بها وصولا إلى النزق. أما من الناحية التاريخية، فإن جذور المافيا تعود إلى القرن السادس عشر كحركة فلاحية غير منظمة في إيطاليا، ولم تعرف التنظيم إلا مع بداية القرن التاسع عشر بدعم من الرأسمالية الوطنية الصقلية. فالرأسمالية الصقلية هي التي ساهمت في تمويل حركة الفلاحين وتنظيمها محوّلة اياها الى جمعيات سرية على رأس كل منها “عراب”(God father) لضبطها. ومنذ ذلك الوقت أطلقت تسمية “المافيا” على كل حركة تنشط خارج القانون وتخترق فيه مؤسّسات الدولة.

وهذا الاختراق يجمع بين الكسب المالي والرّمزي وبين التخريب المعنوي والإنساني لسيادة الدول ولمؤسّساتها؛ فتمارس فيها جميع أشكال الجريمة المنظمة وعبر آليات مختلفة استخباراتية وتجارية  في الأسلحة والبشر والتكنولوجيات وغيرها. كما تنشط في جميع أنواع عمليات تبييض ( غسيل) الأموال القذرة، وتهريب البضائع بكل الوسائل الاحتيالية المتاحة ، بما في ذلك تزوير شهادة المنشأ وإعادة التصدير حتى تعم الفوضى الاقتصادية هذه الدول وتتطبع معها مؤسّساتها.

قد لا يتسع المجال في هذه المقالة لمناقشة هذه الإشكالية المعقدة ، لذلك سوف نقف على بعض النقاط الخطيرة التي تنبؤ برهن سياسة الدّولة الاجتماعية والاقتصادية والمالية بشبكات المافيا والنهب المحلية والدولية مثل “الصناديق الدولية” و”الاتحاد الأوروبي” وغيرها من خلال التوجهات العامة من خلال ما ورد في “قانون المالية لعام 2018” وهو بمثابة إعلان حرب على الشعب وعلى مؤسّسات الدولة السيادية بدعوى “الالتزام بالتعهدات  الإصلاحية مع الأطراف الاجتماعية والمؤسسات المالية الدولية”.

أهمّ ورد في مقدمة “مشروع قانون المالية لسنة 2018” ما يلي:” تهدف التوجهات الأساسية لقانون المالية إلى دفع الاستثمار من خلال خصه باعتمادات إضافية والتشجيع على الإدخار، وإلى مواصلة التحكم  في عجز الميزانية وذلك بترشيد النفقات وخاصة نفقات الأجور والدعم والاستثمار العمومي وإصلاح الصناديق الاجتماعية، وكذلك دعم الموارد الذاتية للدولة وخاصة منها الجبائية…إضافة إلى انصهار العديد من اجراءات مشروع القانون المذكور ضمن مواصلة الالتزام بتعهدات الدولة الاصلاحية مع الأطراف الاجتماعية والمؤسّسات المالية الدولية”.

هذه الفقرة التي اسْتُهِل بها قانون المالية جاءت موجزة وواضحة الدّلالة والمعاني بشكل لا يقبل التأويل حول استراتيجية الدولة وتوجهاتها الأساسية الاقتصادية والمالية في المستقبل. لكن ما ينقص هذا القانون هو التّصريح بشعار هذه “الاستراتيجيا” وهو: سياسة التقشّف.  على الرّغم من أن هذا النص قد أخفى هذا المفهوم، فإنّ هذه الفقرة تشير صراحة إلى ذلك من خلال العناوين الواردة فيها وهي:

1ـ  دفع الاستثمار ( النهب) وخصه باعتمادات إضافية،

2ـ التحكم في عجز الميزانية عبر “ترشيد” ( التقشف)النفقات وخاصة نفقات الأجور ( تسريح العمال والاحالة على التقاعد المبكر)،

3ــ تقليص الاستثمار العمومي أي التّفويت في المؤسّسات العمومية،

4ــ دعم موارد الدولة عبر الرفع من الجباية ( التّفقير).

لا يستطيع أحد، اليوم، أن ينكر أن السّبب في أزمة البلاد وهجرة الشباب وانتحاره هو “الفساد” بمختلف أشكاله ومخلفاته. فانفجار الدّيون والافلاس والأزمة العامة وانهيار قيمة الدينار وارتفاع الأسعار في السنوات القليلة الماضية ليست إلا عرض من أعراض منظومة الفساد التي أصبحت أداة ابتزاز وتفكيك لمؤسسات الدولة في تونس. لكن رغم ذلك، فإنّ هذا القانون لم ينطق بالحقيقة ولم يسم الأشياء بمسمياتها، وهو أن السّلطة غير قادرة على تفكيك لوبيات الفساد التي أصبحت تتضاعف سنويا، وتكلف ميزانية الدولة خسائر بمئات الملايين من الدولارات.

على الرّغم من سياسة التّضليل التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في تونس منذ 2011، يكشف لنا هذا القانون استراتيجية الحاكم الحقيقي “الخفي” في الدولة، والجانب غير المرئي للخطة في دعم حكم منظومة فساد الشركات وأصحاب المال ذات النفوذ السياسي والاقتصادي، وذلك على حساب حرمان الطبقات الفقيرة والمتوسطة من الخدمات الاجتماعية والعيش الكريم. ففي ظل هيمنة “شبكات المافيا” على مقدرات البلاد أصبحت الأغلبية الساحقة من الشعب تعيش في الهامش من التنمية والرّفاه والكرامة بل تحول الشعب إلى مجرد أرقام استهلاكية ومشاركين بالطّاعة والانقياد والفرجة عبر مختلف “أشكال السّطوة” والهيمنة المالية والسياسية والإعلامية من أجل هندسة المواقف والقيم.

لقد أصبح كل شيئ في تونس ضبابيا، ويصعب إعطاء الواقع إسمًا معبرا في ظل التصدعات والتهديدات الشاملة التي لن تستثني أحدا من أفراد المجتمع مهما علا شأنه. كما تضخمت المؤسسات الخاصة واستشرت ثقافة النّهب المنظم ( القانوني) وتغلغلت شبكات الفساد في كل المؤسّسات. لذلك، تُعدّ كل المفاهيم والحجج الواردة في هذه السياسة مسخرة بعقول الناس. فكيف نساوي مثلا،  في تحمل الأعباء الجبائية بين الأغنياء والفقراء؟

إنّ “سياسة التقشف” هي جريمة حرب أطلقتها سلطة “اليد الخفية” التي يقودها رجال الأعمال “الخائنون” لأوطانهم، وهي مكافأة لهم لدعم رؤوس أموالهم ولدعم احتكارهم لكل عناصر الإنتاج الأخرى. فقد جعل هذا القانون من “العامة” عبيدا ولن يكونوا يوما من اهتمامات سياسة “دولة السّوق” التي لا تخضع إلى شكل من أشكال المحاسبة. لقد حوّل هذا القانون الفقراء وعامة الشعب إلى مستبعدين من إمكانية التمتع بالرخاء ولكنهم شركاء في علاج الأزمات. فسياسة التقشف هي إعلان حرب على أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسّطة، وهي أكثر ظلما وانتهاكا لحقوقهم في التنمية لأنها تبرئ الفاسدين الذين تسببوا في الأزمة وغنموا كل المكاسب منها. أليست الزيادة في الضرائب والتقشف في النفقات العمومية والحد من الاستثمارات العمومية هي الوجه القبيح لحرب الإبادة “النّاعمة” للشعب مقابل حماية الفاسدين الذين تسببوا في هذه الأزمة!

واستند هذا القانون، لتضليل الرأي العام، إلى ترسانة من المصطلحات “الزئبقية” التي لن نجد لها أثرا في الواقع مثل: “دعم التشغيل” و”التنافسية” ” وتشجيع الاستثمار” …الخ من أجل إطلاق أيادي لصوص الدولة وصرف الانتباه عن دورهم في “النّهم” و”التّفقير” و”التّهجير” و”التّهميش”. لذلك، ومن أجل تسييس الفساد ومأسسته، كثر صراخ هؤلاء اللّصوص وزاد تهريجهم وعربدتهم وتهديدهم عسى أن يغشوا أبصارنا ويلهوا رؤيتنا لحقائق الأمور ومعرفة أسباب الأزمة الحقيقية، ومن أجل تمرير هذا القانون للمصادقة عليه من قبل البرلمان دون تعديل أو تغيير.

نعتقد أن هذا القانون قد حكم على جميع أفراد الشعب أن يظلوا مهمشين ومنحرفين بلا إرادة، وإلى شرعنة أعمال النهب والسرقة بحيث يصعب على أي سلطة مقاومتها، ولن تجد في النهاية من حل سوى الاعتراف بها، فتمنح الفاسدين والخائنين للوطن المناصب الرئيسية وتُرتّب لهم أماكن “الرّعي” والسّطو على ما بقي من مرافق عمومية. كما أدت هذه السياسة إلى نتائج كارثية على مستوى ارتفاع نسق الدّيون ـــ الداخلية والخارجية ــ وإلى فقدان “السّيادة الائتمانية” والسّقوط في “الهاوية المالية”(Fiscal Cliff)، وكذلك إلى ارتفاع نسبة بطالة الشباب وتقليص الخدمات الاجتماعية وتفكيك مؤسّسات الدولة والتبعية أي الانتقال من نظام الوصاية الدولية إلى الإستعمار المباشر في أقبح صوره.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023