ليست القدس أرضا وكفى وكلّ الصّراع فيها وحولها وعليها إنّما يتّصل ويمتدّ ويحتدّ لأنّها أكثر من أرض ولو كانت فقط تلك الأرض التي تقاس وتُحدّ لما كان صراع أصلا أو لأبدع المتصارعون حلولا تُوقفه وتنهيه. الواقع أنّ القدس عنوان واسع تجتمع عنده أبعادٌ كثيرة تترابط وتلتحم ما يحوّلها عقدة مركّبة. تتّصل القدس بالدّين والمعتقدات ففيها من الشواهد المقدّسة ما لا يُحصى كما تتّصل بتاريخ قديم عميق يتجلّى فوق أرض القدس وتحتها بفضل أثريّة ثريّة لم تطمرها القرون المتعاقبة. تتّصل أيضا بتعدّد وتنوّع ثقافيين استثنائيين يفسّران بحركة شعوب وأقوام نحوها حقبة بعد حقبة. تذكرها صفحات تاريخ قديم وتُؤرّخ بها غزوات وفتوحات ومعارك دامية وملاحم وتذكرها روايات آخر الزمان بتواتر لافت. هي مسرى رسول الاسلام وفي أكنافها ميلاد كلمة الله السيّد المسيح. حاضرة في المخيال الديني الواسع واعتمدت دهورا موضوع تعبّد وتفكّر وسعي نحو كمالات المعنى والدّين. تجذّرت قناعة عابرة للثقافات والأعراق والأديان قوامها أنّ القدس مُلتقى الأرض والسّماء وموطن بركة عظيمة. هي القدس والقداسة والمقدّس ولقد مثّلت للأروبيين خلال القرون الوسطى عنوانا بارزا حُشدت من أجله جنود جرّارة وأديرت حملات عدّ قادتها أبطالا مقدّسين.
ضَمُر الدّين بعد ذلك واستشرت العَلمنة وغلُب التّحديث ورأت مجتمعات كثيرة أن تنتظم بعيدا عن ميراث الدّين وخلنا أنّ ألق القدس سيخبُت نتيجة لذلك واستتباعا له. حَصلَ العكس ونرى اليوم كيف أنّ القدس تحوّلت مركز صراع دولي غير مسبوق. لا يعتمد المتصارعون على القدس اليوم مفردات دينية ولكنّ الكلّ يعلم أنّ هذه المفردات لم تغب إلّا ظاهرا وبقيت تعتمل في النفوس والعقول وتحرّك الفاعلين. الجديد المستجدّ زرع الكيان الصهيوني في فلسطين العربيّة المُسلمة بتدبير ماكر من الإستعمار الذي أثخن في المنطقة استضعافا وتقسيما وبثّ فرقة وتمزيق مجتمعات وإحياء نعرات مذهبية ودينية وعرقيّة وقبليّة. كانت عين الصهيونية منذ البداية على القدس ولكنّها سعت في وضع اليد عليها بالتّدريج وبجمع أسباب القوّة السياسية والأمنية والعسكريّة لذلك. بل إنّها سعت بكلّ المكر في تحريف التاريخ وتغيير الأمزجة واختراق العقائد لتترسّخ قناعة بأنّ القدس تضمّ هيكلا شاهدا على هويّتها اليهودية هو سرّ قداستها وأصل بركتها. هذا جهد بُذلَ قرونا متّصلة وأثمر ما نراه اليوم من ظهور للصّهيونية المُستقوية بتحريفيّات يهودية فمسيحيّة وأخيرا اسلامية إذ صرنا نسمع اليوم ومن مراكز اسلامية ترعاها السعودية تبريرا لفكرة أنّ القدس يهوديّة وأنّها حقّ بني اسرائيل الثابت والأصيل.
خلال السنوات القليلة الماضية قوي توجّه تهويد القدس وبلغ مداها بإعلان أمريكا ترامب القدس عاصمة يهودية وبالمضيّ في صفقة تصفّي القضيّة الفلسطينية وقضيّة القدس المتّصلة بها. أي أنّ الصّراع يبلغ مع ترامب محطّة حاسمة ويزيد تطاول الصهيونية بما يفرض تحمّلا للمسؤولية حاسما أيضا، فلسطينيّا وعربيّا واسلاميّا وإنسانيّا. الصهيونية وهي سليلة عقيدة “شعب الله المختار” مبيدة للفلسطيني وللعربي وللمسلم وللإنسان. ذلك أنّ هؤلاء، مجتمعين ومفرّقين، من “الأمّيين ” وليس على المختارين في الأمّيين سبيل كما ينقل القرآن الكريم عن بني اسرائيل. هي عُنصريّة خطيرة متشبّثة لأنّها تلتحف بلحاف المقدّس والدّين وتصوّر سفك الدّماء والإفساد في الأرض عبادة مُكتملة يُتقرّب بها إلى الله بينما الله رحمة للعالمين مُكرمٌ لخلقه لا يخيّر بعضهم بلون وعرق وأصل ولسان وإنّما بتقوى وصلاح ومسارعة في الخير.
ذكرنا تحمّل المسؤولية والسؤال الملحّ هنا والآن إن كان الوعي بدقّة المرحلة مكتَملا وإن كان تحمّل المسؤولية ناجزا بالقدر المرجوّ والمطلوب. الواقع مؤسف فالوضع، بين عربيّ وإسلامي، مخيف. تَنقاد دولٌ رغم عريض امكانياتها إلى فخاخ الصهيونية فخّا بعد فخّ وتذعن صاغرة. بل إنّها تتحوّل رائدة للتّطبيع والتّسليم معتمدة من الحجج أوهاها ومتذرّعة بكلّ عبث. أمّا النّخب فمُستدرجة توظّف طاقاتها بسخاء لفكّ ارتباط الشعوب بيوصلتها المقدسية عنوان كرامة وقيمة واستقلال. ليست الصهيونية قوّية في ذاتها وبذاتها. لا يفسّرُ بأسها بغير ضعف منتشر حولها عند عرب ومسلميين يهربون من قضيّتهم المركزية وينفقون طاقاتهم في قضايا واهمة وهميّة. لا تتعملق الصهيونية إلا من فرط تقزّم العرب والمُسلمين. هي سياسة “فرّق تسد” القديمة خلنا أنّنا خبرناها جيدا وما عدنا نقع في مطبّاتها ولكن يحصل لنا ومعنا بها عكس ذلك تماما. كلّ خطط التفريق والتمزيق واذهاب الرّيح تنجح معنا. والأمر هكذا لا تحتاج الصهيونية جيوشا جرّارة ولا تحتاج تكنولوجيا سلاح خارقة لتنفذ وتظهر وتتمكّن. يكفيها الإبقاء على الفرقة بيننا وعندنا وهي فرقة تدوم منذ عقود ولقد رسم الإستعمار لها خططها الفعّالة ومضى في صارم التنفيذ منذ فرض الكيان الصهيوني.
لماذا الآن وليس بأمس قريب خطط لتهويد القدس وتصفية قضيّة الفلسطينيين؟ هل هي طفرة عسكر وسلاح؟ لا. الأشراط النفسية والسيولوجية مجتمعة عربيّا واسلاميا للإنقضاض بشكل حاسم فلا تكون قدس ولا تكون فلسطين. فتحت السنوات الأخيرة الباب على مصراعيه لكلّ أشكال الصّراع التي تركّزت عندنا بتقدير وحساب. انتقلت الصهيونية إلى هزّ الدّول وتدمير مجتمعات تارة بتأليب المكوّنات بعضها على بعض وتارة بتركيب جماعات عدم وارهاب ومدّها بالمال والسلاح وهندسة أحلاف اقليمية كلّ خراجها لحساب اسرائيل وظهورها، شعرت هذه الأحلاف بذلك أم لم تشعر. اسرائيل سعيدة بما كان في سوريا والعراق واليمن وتحدّث نفسها بأن يكون مثله في لبنان ومصر وليبيا والجزائر وغيرها. هي سعيدة وتقول أنّها كذلك بل تزيد وتفتخر أنّها خطّطت وتخطّط ليكون هذا الذي كان ويكون. في المقابل يفرح عرب ومسلمون بالذي هم فيهم. بعضهم يرى نفسه منتصرا لدينه الحنيف وبعضهم يقول أنّه ينصر المذهب الأصيل. آخرون يتصدّون لفرس مجوس أو هكذا يظنّون . قوم يفخرون بأنّهم بشارة عدالة السماء على الأرض وقوم يعدوننا بعودة خلافة تطبّق شرع الله. إذا شئت قلت فوضى وإذا شئت قلت عدم أمّا الصهيانة فيقولون أنّ الله معهم يمدّهم بما يبثّه في خصومهم من وهن وحمق. المشهد محزن مؤلم والأمل في رحمة الله ونفخة منه تُعيد الرّوح الرّاحلة المغتربة.
الوصف الذي سبق قاتم ولكنّه لا يجانب الموضوعية ولا يزيّف الواقع. هو، على العكس يفكّكه بدقّة ويعرّيه وهذا مطلوب بل إنّ ذلك من أوكد الشروط إذا رمنا حلّا لأزمة ضخمة متشعّبة. معركة القدس ليست معركة حدود ولا هي معركة سياسة وتقاسم مصالح ونفوذ. هي معركة معنوية حدّية قصوى. قد لا يفي حديث عن أنّها “معركة وجود” بالغرض إذا رمنا الإحاطة بها والتعريف. هي معركة حاسمة لجهة تحديد مصير الانسان ولا نقول شعبا أو أمّة. اذا استقرّ الأمر للصهيونية ونجحت في اخضاع مدينة مقدّسة بحجم القدس هي شاهدة على تاريخ ضارب في القدم فإنّها تمتدّ إلى كلّ الجغرافيا الأرضية وتفرض على بني البشر عصرا جديدا يكون مرادفا للتجبّر وللإستعباد. ليس غريبا أن يبشّرنا الداعم الأمريكي للصهيونية وعلوّ اسرائيل بنهاية التاريخ. في الخطط، وبعضها مُعلن، تكون القدس نقطة تحوّل من تاريخ إلى تاريخ. هذه خططهم وليست هكذا خطط الله والسّماء فللقدس وعد آخر وميعاد آخر وفي القرآن الكريم تبشير بالوعد كما بالموعد والميعاد. إنّ تمثّلنا للقدس بما هي ساحة معركة فاصلة بين الخير والشرّ مفيد ليجعلنا نقوى على هذه المعركة ونعدّ لها عدّتها. هي معركة يحضر إليها نفير الشيطان ومدد السّماء.
لا حلّ في مقايضة ولا حلّ في مساومة ومفاوضة. الحلّ كلّ الحلّ في المقاومة وليست المقاومة حمل سلاح فكثيرون يحملون السلاح لحساب الإستعمار واسرائيل ونشيدهم القدس وفلسطين. المقاومة المطلوبة حالة نفس وضمير ومنظومة فكر وثقافة أي إنّها بنيان مرصوص قواعده عقدية معنوية ويثمر انتصارات مؤزرة في ساحات المواجهة الواعية والبصيرة والرّصينة. وعليه فهي حالة من الوعي الإنساني الراقي والسامي والمكتمل. ليست حبّ قتل موصل إلى الموت في كلّ اتّجاه وليست نزعة ثأر وتشفيّ إنّما هي مكابدة متينة تعيد الإنسانية إلى بوصلتها وإلى الحياة العزيزة الكريمة والتنظّم العادل القائم على كفّ الظلم وردّ الحقوق إلى أصحابها وفتح القدس لكلّ المؤمنين على اختلاف معتقداتهم وأصولهم. نعم إنّ القدس معركة الكرامة الإنسانية وهي لذلك معركة تعني كلّ الخيّرين بعدا عن العناوين المفرّقة. وهي معركة تعيد تعريف الهوّيات فأنت مع حرّية القدس أو ضدّا لهذه الحرّية فلا يشفع لك إنتماء إن أنت أخطأت في معركة القدس الإصطفاف. يخون القدس أقوام من أعراق وأديان ومذاهب شتّى وينتصر لها أقوام من أعراق وأديان ومذاهب شتّى. هي بالتالي عنوان التمحيص الأبرز الآن وخلال السنوات القادمات.
يُحسب لإيران رفع الصّوت عاليا عندما خفتت الأصوات وأصوات دول العرب هي الأكثر خفوتا منذ كمب دفيد. يحسب لشعب ايران أنّه منذ ثورته على الشاه الحامي لإسرائيل يسلّح مقاومين للصهيونية ويدعمهم بالخبرة والمال والسلاح. يحسب للقيادة الايرانية أنّها جعلت للقدس يوما تتظاهر بمناسبته حشود يزيد عددها كلّ عام، تصرخ بكلّ وضوح وتُعلن اسرائيل غدّة سرطانية. تُعلن وتلعن الظالمين. ليس هذا بالبسيط ولا القليل ولا يضَيّق على إيران وعلى الإيرانيين بكلّ وسيلة إلا بسبب هذا الموقف من الصهيونية واسرائيل. العرب أولى بالقدس وفلسطين من غيرهم فهم من بادر الى الإقرار بعروبة فلسطين وهم من عرّف القدس قضيّة مركزية هم. هم أولى بفلسطين والقدس شريطة أن لا يكون منهم تفريط فيهما وإلّا فالمقاوم أولى إن كان مسلما أو بوذيا، إن كان فارسيا أو تركيّا أو شيعيّا أو سنّيا. لا ينكر فضل ايران والايرانيين منذ أربعين سنة إلّا أحمق مشبوه أو جاحد ناكر جميل.
الاسهام الايراني في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة وفلسطين والقدس مركزي وحيوي غير أنّه لا يكفي. هو عربة وليس في كلّ الأحوال كلّ القطار. يتعلّق الأمر بمعركة ضخمة تحدّد مصير الإنسانية والانسان لقرون قادمة. هزيمة الصهيونية في هذه المعركة تعني هزيمة الإستعمار ونظام هيمنته الظالم والمتجبّر. تعني هذه الهزيمة، وهي تعني أكثر ممّا نذكر هنا بكثير، تجدّدا للعالم بعد سبات يطول. قد نختلف مع الايرانيين في مسائل وقد نتفّق في مسائل وأصلا فالإختلاف سنّة وقانون. غير أنّه من الممكن جدّا، عندما يتعلّق الأمر بالقدس وفلسطين أن تجمعنا بهم ومعهم كلمة سواء: المقاومة. وتعني المقاومة رفضا حاسما باتّا مبرما لإسرائيل فكرا وثقافة وعقيدة وسياسة. يجتهد رسميون عرب ويوظّفون نخبا تمشي بين النّاس وتقول: ايران هي العدوّ واسرائيل حليف. هذا أعتى مكر الشيطان وآخره.