بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، تونس) |
المقولات المركزية:
_ مقولة «النَّفل» و«التنافل». _ مقولة «أولو الأرحام» ( = نافلة الرسول الْعَقِبِيَّة). |
قلب السورة المفترض:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ .إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(الأنفال،75).
|
موضوع السّورة الكريمة: لا يمكن ظهور الاجتماع التنافلي الناجز دون مراكمة لحظوظ الأفعال الأنفالية التي تبدأ بالتنفل في العلاقة بالله تعالى وطاعة نافلة الرسول الْعَقِبِيَّة، ولا تنتهي بنفل خُمُس الأنفال لله وللرسول ولذي قرباه وللمستضعفين. |
- ما «النَّفْل» (ج. «أنفال»)؟
«النَّفل»، في اللغة العامّة، هو «الزيادة على الأصل». هو «العَطاء والفضْل» وهو المنَاصحة والمدافَعة عن الآخر[1].
شبكة مادة «ن ف ل » في القرآن الكريم، نجد فيها أربعة مَوارد:
- موردان في سورة الأنفال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ. قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الآية،1) .
- مورد في سورة الإسراء: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ، نَافِلَةً لَكَ، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الآية،79).
- مورد في سورة الأنبياء: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً، وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ (الآية، 72).
إذا أردنا أن نستقرئ مقولة قرآنية عامة في «النَّفْل»، ستكون مَفْهَمَتُها مرتبطة بمقولات «الاختلاف» و«التسخير» و«التعاون» و«المنافع». ف«الاجتماع»:﴿ وقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ(هل اخترتم نوع اجتماعكم؟)﴾ (الشعراء ، 39) يمكن أن يكون دُوليا- بخسيا، ويمكن أن يكون تعاونيا. وأرقى أنواع الاجتماعات التعاونية هو «الاجتماع» «التنافلي».
الاجتماع «التعاوني» هو تفاعل القوى المختلفة وفق حدود الوقت والمكان المشتركة بينها، فتكون «المنافع» متبادلة وفق قاعدة «تسخير» تجتنب الإثم والعدوان.
فإذا تحقق «البر» و«التقوى» في حظوظ تمكن الاجتماع التعاوني بدرجة كثيفة ودائمة يقع الانتقال من أفعال الاجتناب بحكم امتصاص الإثم والعدوان إلى حدودهما الدنيا، وتكون المراكمات الاولى للاجتماع التنافلي. وهو ارتقاء القوى المختلفة في تسخرها لبعضها، إلى حالة التميز و التكوثر، لإنشاء منافع مستجدة وسعادات ولذات جديدة بإستمرار.
«النَّفْل» قرآنيا، هو حُظوظ العطاء غير المحظور على الامتداد بين إلاه الناس والناس، وبين الناس. وأرقى تجلياته هو «الكوثر»[2]، الذي هو أصلا عطاء فاطمي من إلاه الناس إلى روح الوجود، محمد؛ ولكنه يفيض من محمد (ص) إلى مُجْمَل الوجود (ومِنه البشرى) ليكون «أهل البيت».
الأصل في الميراث الإبراهيمي هو «إسماعيل» (= إسْمَاعُ الإيل = سمّيعُ الله)، لأنّ منه سيكون محمد (ص) كائنا تاريخيًّا مغيّرًا للعَالَم. و«النافلة» الإلاهية لإبراهيم (ومِنْ ثمة لسوريا وللعَالَم) هو ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ (الأنبياء، 72)، نتيجة «هِبَة» إلهية، أي عَطاء وُجودي دون طلب مقابل: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا [هُما والأصل الإسماعيلي] جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ (الأنبياء، 72).
أما «النَّفْلُ» الإنساني باتجاه إلاه الناس، فإنَّ له مقابلاً من العطي سبحانه وتعالى (ولا معطى غيره). ففي حالة «تنفّل» سيّد الوجود في صلواته، يكون انبعاثه غير المحدود مِنْ اللاَّمحدود سبحانه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (الإسراء، 79). فذلك «الليلُ» الفلكي، يتحوَّل إلى «لَيْل» أنطولوجي، إذ أن «الليل» هو ابن بعض «الطور»، ولا «طيْرًا» أكثر مَشِيئيّةً وتساميًّا من «طير» الروح المحمدية، يخرج مِنه «لَيْلٌ» يملأ الأرض عدْلا وقسطا وعلمًا، فيكون ﴿نافلةً﴾ لرسول، كما كان إسحاق ويعقوب «نافلةً» للأصل الإسماعيلي: ﴿ وَالْفَجْرِ (= محمد) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (= أبناء عشر)، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (= شفعة عليّ وبنته الوِتر) وَاللَّيْلِ (= والإبن الأخير) إِذَا يَسْرِ [3] (= إذ يخرج ليلاً من المدينة المنوّرة إلى مكة المكرمة لإعلان بداية إتمام نور الله على العالَم﴾﴾.
يَكْتَمِل «النَّفْل» القرآني بسورة «الأنفال» بالجمع، لأنها جمعتْ النَّافلة الإلهية والنافلة الإنسانية عامة والنافلة المحمدية – اللَّيَالِيّة- خصوصًا.
لقد أراد رسول الله (ص) أن يؤسس بيثرب بُنيانًا اجتماعيًّا «متنافِلا» بالقوة والفعل حتى يصبح «تنافليا» فعلا، أي «متكوثرا» على حظوظ العطاء المتبادَل، وعَيَّن له «نَافِلةَ» النبيّ الْعَقِبِيَّة، سيدتنا فاطمة (ع) ، وزيرةً لمَعَاشه «التعاوُني»- «التنافُلي»- «العَدْلي».
كان اجتماعًا قائمًا على «السؤال»: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾[4] فلا خَيْر في إيمان دون استدلال ودون تعقل. كان السؤال في سورة «الأنْفال»، عن «نافلة» الصلاة، فكانت إجابة السورة أنه لا قيمة لها دون «نَافِلةٍ» إنفاقية من الفرد للجماعة:﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ [بالنوافل] وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الأنفال،3).
وكان السؤال عن قيمة نافلة الإنفاق للجماعة، فكان الجواب أنه لا قيمة لها دون إنفاق المخاطَرة بالحياة لحماية الجماعة: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [مِن قلب يثرب للدفاع عنها بِبَدْر وغيرها] وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ 5يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ 6﴾ (سورة الأنفال).
إنّ «أنفال» الإنفاق الفردي المَعاشي والمالي على الجماعة وإنفاق المخاطرة بالحياة من أجل «المدافعة» عن الجماعة[5] والدولة الصالحة، إنما هو مِنْ أجل الترقي في مَدَارج «التقوى» التي تجعل الفرد والجماعة سعيديْن، ومِنْ أجل إصْلاح الاجتماع المَعاشي حتى يمتصّ بسرعة ونجاعة «التفاوت» الشيطانيّ و«البَخْسَ» ويَمْحق « الدُّولية » و«الرِبَا» و«المَيْسَر»: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ [هو النافِلُ الحقيقي والجوهري] وَالرَّسُولِ [كما كان إسحاق ويعقوب «نافلة» لإسماعيل، كان أهل البيت «نافلة» للرسول، وهم «نافلة» أي «شفاعة» للإنسانية]﴾ (سورة الأنفال،1).
وكل «الأنفال» الإنسانية، إنما وظيفتها المرور إلى ساحة ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ (الأنفال،1) التي تُفيض على النفس «الطهارة» (الأنفال، الآية11) و«الميزان» السَّعادي. فإذا تَعمَّمتْ تلك المِعطائية- التناقلية، كان المرور إلى «الميزان» الاجتماعي: استقرارًا وتحابُبًا وضمورًا للتباغض والتحاسد و«السرقة» والاختلالات و«الاستخفاف»:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ. قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾.
شبكة التنافل القرآنية
لم تَكن «نافلة» الرسول (ص) العَقِبيّة سِوى ﴿ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ (الأنفال، 11). فـ«الطهارة تطهيرًا» (سورة الأحزاب، الآية33)، ليس لمفعولها المطلق سوى الإفاضة على كل البشرية: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ﴾. فلقد كانت كل قلوب مجاهدي بَدْر تحت راية «نافلة» رسول الله (ص)، أي سيدنا علي (ع)، مطمئنة، راضية، مُقتنعة.
وهذا المزاج الاجتماعي التنافلي، اخْتُتِمَتْ به سورة الأنفال، لتبدأ بـ«الأنفال» جَمْعا، وتنتهي بها – مُسَوَّرةً- بالجمع أيضا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ (الأنفال، 74). ولكنّ السورة تؤكد بشدة استمرار ذلك: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ (= بَعْد لحظة بَدْر) فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ﴾ (الأنفال، 75). وذلك لن يتحقق إلا ببقاء طاعتهم لـ«نافلة» الرسول (ص) العَقِبية: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ [من فاطمة وعلي (ع) ] بعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [في سُنّة الله التاريخية منذ العهد الآدَميّ والنوحيّ] إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [فهو الأعلم بما يناسب الطبيعة الإنسانية وسعادتها]﴾ (الأنفال،75).
- 2. ﴿ الْأَنفَالُ﴾ في القتال الحربي:
الأنفال في الحرب هي أخذ المؤمنين والمستضعفين لبعض ما كان من مال « الدُّولة» و«البخس» و«الكنز» الاستكباري بواسطة الحرب، ليعاد ضخها في البنيان المعاشي العادل. ويجب أن تكون أنفال الحرب كلها، دون استثناء، ﴿ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾. فينبغي أن لا نفكّر في أن تكون غنائم فردية، كغنائم حروب الجاهلية. فحَذار أن ننكْص إلى «الحرب الجاهلية»، فهذه حربٌ إسلامية: ﴿فَاتَّقُوا اللَّـهَ، وَأَصلِحوا ذاتَ بَينِكُم، وَأَطيعُوا اللَّـهَ وَرَسولَهُ، إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾ (الأنفال،1).
ففدك، مثلا، هي لله والرسول. وينبغي أن تبقى كذلك، أي لمن يمثّل الرسول، أي لمن هي «روحه التي بين جنبيْهِ» بالغيب، ولمن هي «بضعة منه» بالمادة والروح. فلا ينبغي لأي تَيْميّ أن يكون من الذين ﴿يُجادِلونَكَ فِي الحَقِّ بَعدَ ما تَبَيَّنَ ﴾ على لسان سيدة البيان مطلقا، سيدة نساء العالمين، عليها السلام، فيجادلونها في النَّحلة الأنفالية ثم يجادلونها في الإمكانية الإرِثيّة. وبذلك يكون المجادلون ﴿كَأَنَّما يُساقونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرونَ﴾ (الأنفال،6)، فالتدبير الفاطمي لِفدك يعتبرونه موتًا لاغتصابهمْ السياسيّ والمعاشيّ ولأطروحتهم الاجتماعية الظُّلْمِيّة.
ولقد أخطأت سلطة الخليفة الثالث (والي مصر) إذ جعلت جزءا كبيرا من «الكنز» الروماني_البيزنطي الذي نُهِبَ من شعوب المتوسط عبر القرون « دُولة» بين المترفين الجدد في مصر. فكان أن ارتاب المسلمون الجدد في إفريقية في الإسلام ليرتدوا عنه بعد أن أعانوا المسلمين للوصول قرب العاصمة (سبيطلة) والانتصار العظيم في معركة «عقوبة». ومن ناحية أخرى تسبب ذلك في ظهور الثورة الشبابية السلمية على الخليفة الثالث الذي لم يتدخل لإرجاع أنفال الحرب لله وللرسول أي للشعوب المنهوبة.
- 3. من دروس التجربة البدرية:
تسمية معارك دولة النبي (ص) ب«غزوات» خطأ شائع بداه القصاصون الحجازيون ذوو اللاوعي الجاهلي_الغزوي والقصاصون اليمانيون التلموديون_فالنبي لم يغز غزوة قط، إذ أن «الغزو» هو خروج من الحمى الخاص إلى حمى الآخر. وقد كانت بدر ضمن حمى دولة يثرب، وكان الغازي هو المعتدي المكي[6].
كان المسلمون يودّون ﴿غَيرَ ذاتِ الشَّوكَةِ ﴾ (الأنفال،7)، أي القافلة التجارية، ليعوّضوا ما اغتصب منهم بمكة[7]، ولكنّ الله كان يريدُ ﴿ذاتِ الشَّوكَةِ ﴾، جيش «الإيلاف» القرشي الذي اغتصبه «المترفون» بعد أن بناه سيدنا قريش(ع) [8]. لقد أراد الله تعالى ذلك لأنه يريد ﴿أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقطَعَ دابِرَ الكافِرينَ﴾(الأنفال،7). ﴿وَلَو تَواعَدتُم لَاختَلَفتُم فِي الميعادِ، وَلـكِن لِيَقضِيَ اللَّـهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا، لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ، وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّـهَ لَسَميعٌ عَليمٌ ﴿٤٢﴾ إِذ يُريكَهُمُ اللَّـهُ في مَنامِكَ قَليلًا، وَلَو أَراكَهُم كَثيرًا لَفَشِلتُم، وَلَتَنازَعتُم فِي الأَمرِ. وَلـكِنَّ اللَّـهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ ﴿٤٣﴾ وَإِذ يُريكُموهُم إِذِ التَقَيتُم في أَعيُنِكُم قَليلًا، وَيُقَلِّلُكُم في أَعيُنِهِم، لِيَقضِيَ اللَّـهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا وَإِلَى اللَّـهِ تُرجَعُ الأُمورُ﴾ (الأنفال، 43 و44). إنها معركة نفسية وتمثُّلية قبل كل شيء.
معركة بَدْر كانت معركة تنافلية، أي فيها مخاطرة بالحياة ، رغم أن هذه المخاطرة لم تكن مقصودة في البداية، لأن المسلمين كانوا يريدون بواقعية ﴿غَيرَ ذاتِ الشَّوكَةِ ﴾. كانت مَعْركة الله والرسول ونفْسِه وأتباعه القِلّة ضدّ ﴿الباطِلَ ﴾ (الأنفال،8). ولذلك أمدهم الله تعالى بقوة على قوتهم الضعيفة: ﴿بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ﴾ (الأنفال،9)، ﴿ فَلَم تَقتُلوهُم، وَلـكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُم. وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ، وَلـكِنَّ اللَّـهَ رَمى﴾ (الأنفال،17). فلقد كان انتصار بَدر ﴿بُشرى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم ﴾ (الأنفال،10). كانت معركة الله تعالى ورسوله ونَفْسِه (الإمام علي) وأتباعِهِ القِلّة ﴿إِذ يوحي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنوا سَأُلقي في قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبوا مِنهُم كُلَّ بَنانٍ ﴾ (الأنفال،12)، أي كل «الكفّار»[9] المعتدين (جيش «الإيلاف» القرشي المغتَصَب). ولمْ يفعَل الله تعالى في كل معارك الرسول الأكرم ما فَعل بِبَدْر، لأنها هي أساس كل الانتصارات اللاحقة، ولولا هي ما كان ليكون شيء للنبيّ الكريم، وما زلنا نجني ثمارها إلى اليوم، بل إلى يوم القيامة.
- 4. الأنفال لله وللرسول حتى يوم القيامة:
نظرا لهذا الدَّيْن، الذي علينا لله تعالى، فينبغي أن تُبْقى «الأنفال» إلى يوم القيامة ﴿للَّـه وَالرَّسُول﴾ (الأنفال،1)، وأن نرد الجميل انطلاقا من المعركة الموالية (في أُحُدْ)، حتى المعركة الأخيرة مع الإمام المهدي عليه السلام: ﴿وَاذكُروا إِذ أَنتُم قَليلٌ مُستَضعَفونَ فِي الأَرضِ تَخافونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُم ﴾ بِمِنة فتح أهل يثرب دارَهُمْ لكم، ثم ﴿وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ﴾ البَدْري، ﴿وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ من بُنيان مَعاشي كريم وبلدةٍ طيّبة وغنائم بَدْرية (حتى ما بعد البدرية هي بَدْرية لأنها نتيجة لها)، ﴿لَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾ (الأنفال، 26)، وذلك بأن ﴿لا تَخونُوا اللَّـهَ وَالرَّسولَ، وَتَخونوا أَماناتِكُم[10] (أمانات إثني عشر) وَأَنتُم تَعلَمونَ﴾ (الأنفال،27). وأهم «أمانة» بعد وفاة الرسول هي فاطمة، ثم أهل بيته عليهم السلام، فأنتم تعلمون ضرورتهم لحياتكم وحياة الإسلام[11]، فالأنفال ينبغي أن تبقى بيد سيدتنا فاطمة عليها السلام، خاصة وقد أثبتت كفاءتها وأمانتها منذ حياة الرسول الدنيوية. فلم تستغلها في أغراض دنيوية فردية فهي من الذين ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ، مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ. لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً [سلطويا] ولا شُكُورًا [ماليّا]﴾ (الإنسان،9). وأخذ «الأنفال» منهم يعرّض للغضب الإلهي: ﴿ لَولا كِتابٌ مِنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فيما أَخَذتُم عَذابٌ عَظيمٌ ﴾ (الأنفال،68) فهم الذين عليهم السلام يُعطونَها لنا كاملةً لِيَكُون حَلاَلاً: ﴿فَكُلوا مِمّا غَنِمتُم حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّـهَ ﴾ (الأنفال،69).
فكل «الأنفال» هي للرسول، صلّى الله عليه وآله، ليستثمرها لإعادة تدويرها من جديد من أجل الحرب الإلهيّة من أجل السلم ﴿كافة﴾، من جديد كي ﴿وَيَقطَعَ دابِرَ الكافِرينَ﴾ (الأنفال،7). ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ. تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرينَ مِن دونِهِم لا تَعلَمونَهُمُ اللَّـهُ يَعلَمُهُم ﴾ (الأنفال،60). وموارد الحرب، تبدأ بوقود الحرب الكُفري (المادي والثقافي) يُحوّل إلى وقود حربٍ إلهي على الشر، وتنتهي بالنفقات التطوعية ﴿ما تُنفِقوا مِن شَيءٍ في سَبيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيكُم، وَأَنتُم لا تُظلَمونَ ﴾ (الأنفال،60).
- 5. موقع « الخُمُس» في أنفال المؤمنين السلمية والحربية:
يأخذ رسول الله «العفو» (سورة الأعراف، 199) بما هو ما زاد عن حاجة المؤمنين، فيُقسمه إلى خمسة «أنفال»:﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ، وَالْيَتَامَىٰ، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ فالخُمُس الأول يكون وقودًا «قتاليا» (في «القتال» المدني والحربي أي المدافعة السَّوْقِيَّة[12] ضد الحظوظ الاستكبارية) مباشرة ﴿للَّـه﴾. والخمسان الثاني والثالث مبنيان على لاَمِ الله تعالى: ﴿وَلِلِرَّسولِ وَلِذِي القُربى﴾. وأما الرابع والخامس، فهما بين ثلاثة: «اليتامى»، و«المساكين» و«ابن السبيل».
أما «ذو القربي»، فهو نَفْسُ الرسول العلوية عليه السلام و«رُوحه الفاطمية التي بين جنبيه» عليها السلام، وأنْفُسُهُ الأئمة عليهم السلام، والمنحدرون منهم اعترافا بفضل جدهم وحتى لا نتركهم تحت ابتزاز المستكبرين الذين لطالما حقدوا عليه وقتلوهم بسبب نسبهم: ﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ. وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا (نافلة من الله). إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (سورة الشورى، 23). وأما ﴿اليَتامى ﴾، فهم يتامى المؤمنين وغيرهم من عامة الناس. وأما ﴿المَساكينِ﴾، فهم أبناء المؤمنين و غيرهم من المستضعفين وزوجاتهم خاصة اللواتي تسبَّبت لهم مقاتلة المؤمنين الإلهية للاستكبار و« الدُّولة»، في نقص من الأموال، أو تسبّب لهم «العدوان الكُفري» في اغتصاب مواردهم. وأما ﴿ابنِ السَّبيلِ﴾ فهو المتضرّر من العدوان الكُفري على سُبُل الناس التجارية والتَّعلّمية والدّعْوِية، إذ ينبغي لرسول الرحمة تعويضه وحماية طُرُقاته ومواصلاته ووسائل نَقْلِه وآتصاله المتنوعة، من عصر إلى عصر. إن إستمرار «الخمس» في القتال المدني للجبهة الاستكبارية إنما هو من أهم مظاهر الروح التعاونية_التنافلية في الموقع الاستضعافي. وبذلك لا يرضخ لابتزازات الجبهة الاستكبارية متقويا بمراكمة حظوظه الاجتماعية حتى الظهور العالمي_المهدوي.
﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا يُنفِقونَ أَموالَهُم لِيَصُدّوا عَن سَبيلِ اللَّـهِ ﴾ (الأنفال،36) ، وينبغي للمؤمنين أن يتطوعوا في القتال المدني والعسكري وأن ينفقوا من أجله حتى ينتصر السلام في العالم:﴿وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ﴾ (الأنفال،39). وينبغي عليهم أن يسلّموا كل «الأنفال» للرسول و«نَفْسِهِ» و«أنْفُسِهِ» ﴿إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ [الفرقان البدْريّ من ملائكة ونَصْرٍ، له آثاره حتى يوم القيامة] يَومَ التَقَى الجَمعانِ﴾ (الأنفال،41). وينبغي عدم عِصيان هذا الأمر إلى يوم القيامة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّـهَ وَرَسولَهُ، وَلا تَوَلَّوا عَنهُ وَأَنتُم تَسمَعونَ ﴿٢٠﴾وَلا تَكونوا كَالَّذينَ قالوا سَمِعنا وَهُم لا يَسمَعونَ ﴿٢١﴾ إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللَّـهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذينَ لا يَعقِلونَ ﴾. ففي هذه الطاعة حياة العالَمِ السريعة و«عَقْلُهُ»: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَجيبوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم ﴾ حتى قيام الساعة (الأنفال،24). فعصيان النواةِ الصلبة للمسلمين سيضرّ بكل الأمة وبخير العالم: ﴿وَاتَّقوا فِتنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنكُم خاصَّةً ﴾ (الأنفال،25)، وسيؤجل طويلاً حِقبة ملءِ الأرض عَدْلا كما ملئت جورًا.
استنتاجات:
إن الذين آمنوا حقًّا هم الذين آمنوا «بَعْد» بَدْر، و«بَعْد» الوفاة الدنيوية لرسول الله صلى الله عليه وآله، أي الذين رعُوا الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وآله، في أهل بيته عليهم السلام: «أولو أرحامه». تلك هي خلاصة السورة الكريمة التي قَدَّمتْها في طبق من ذهب، في آخر آية كريمة بها: ﴿وَالَّذينَ آمَنوا مِن بَعدُ وَهاجَروا وَجاهَدوا مَعَكُم فَأُولـئِكَ مِنكُم وَأُولُو الأَرحامِ بَعضُهُم أَولى بِبَعضٍ في كِتابِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ ﴾ (الأنفال، 75). فمَن حَفظوا رسول الله صلى الله عليه وآله، في «أولي أرحامه» المعصومين، وأطاعهم، فهم مِنْهُ («سلمان منا أهل البيت»، «أبو ذرّ منا أهل البيْت»، «أم سلمة منا أهل البيْت، وإن لم تكن تحْت الكساء»…)، وأما من لم يكونوا معهم ولم يجاهدوا معهم أعداءهم/ أعداء الحقيقة والفضيلة والعَدْل للإنسانية، فليسوا من رسول الله تعالى، كما أن أبا لهب ليس مِنْهُ، ليس مِنْ أهله، لأنه عملٌ غير صالح. ومن معايير ذلك هو مدى المحافظة على نِسْبة «الأنفال» للرسول ونفسه (ذي القربى). وهنا تنغلق الآية الأخيرة على الآية الأولى[13]، لتُعلن فدَكًا طاعة لأولي أرحام النبي المعصومين، عليهم السلام، ولتُعلن فَدَكًا وقودًا لحرب سريعة على «الفقر» وعلى «الكُفر»، فحدودها كل العالم، كما يؤكّد الإمام الرضا عليه السلام[14]. لأن المفترض كان أن تكون فدك وقودًا كي يكون ﴿الدّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ ﴾ (الأنفال،39). ﴿إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ (الآية الأخيرة). فينبغي عليكم تسليم فدك إذا كان ما عليكم مِنْ ﴿أَصلِحوا ذاتَ بَينِكُم﴾ (الآية الأولى) بذاتكم الباطنيّة. |
مراجع
[1] ابن منظور، لسان العرب، المجلد 11، ص 271 و272 و273.
[2] انظر استقراءنا لمقولتي الكوثرية والتكوثر بتدبرنا في سورة الكوثر.
[3] في العربية، لا نقول: «الليل (الفلكي) يسْري»، بل نقول : «فلان يسري في الليل». فيكون معنى الليل في سورة الفجر مختلفا.
[4] و﴿َيَسْأَلُونَك﴾َ: وردت هذه الصيغة 15 مرة في القرآن الكريم.. لقد مدح الرسول نساء الأنصار لسؤالهن في الدين رغم حيائهن. كان اجتماع المجادلة (راجع تدبرنا في سورة المجادلة).
[5] «دافع» الرسول (ص) عن الجماعة من قَبْلُ بدَوره السَّوْقي والعَملاني في معركة الفِجَار ضد المعتدين من كنانة على مكة.
[6] انظر تدبرنا في سورة التوبة وسورة المائدة وسورة العاديات.
[7] من المستحيل أن يكون أبو بكر وعثمان على ثراء بالمدينة، أوّلاً لأن قريش منعتهم مالهما بالهجرة، ثانيا لأن الإسلام و دولته المحمدية يمنعان الكَنْز، وسيكون اغتصاب فدك وأنفال الرسول (ص) مصدرًا لكنزهما و«كنز» غيرهما. راجع تدبرنا في سورة التوبة، حيث أثبتنا غنى الجميع في دولة النبي (ص) وعدم وجود «مُتْرَف» واحد أو «فقير» واحد. ومن مؤيدي ما ذهبنا إليه: ابن خلدون، المقدمة، دار الجيل، بيروت ، 2005، ص ص 184_185_186.
[8] انظر تدبرنا في الكيان السوري الفيل والقريش.
[9] … تناولنا مفهوم «الكفر» في القرآن الكريم بتدبرنا في سورة التوبة وسورة الماعون، وغيرهما..
[10] راجع مفهوم «الأمانة» في تدبرنا بسورة الأحزاب.
[11] قال للرسول (ص): «اللّه اللّه في أهل ىبيتي!» ( مسلم والترمذي…) ، أيْ: إحفظوا أماناتي لديكم بحق الله تعالى، فْلا تهملوها أو تعقدوا عليها) فتعتدون على أنفسكم.
[12] السَّوْق: هو«الاستراتيجيا» في اللغات الأوروبية.
[13] … وبذلك تكون السورةُ سورةً مرة أخرى… أي كيانًا مُسَوَّرًا له رِبْعَتُهُ (= استقلاله الذاتي).
[14] … راجع في السياق نفسه تدبرنا في سورة الحشر، التي لخَّصت سورة الأنفال.