بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين
بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»: بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري
- سورة التوبة آخر صيغة قرآنية عن المَعَاش الإسلامي
- المَعَاش الإسلامي:
يؤمن الإسلام أن الله تعالى هو المالك الحقيقي الوحيد للكون وما فيه من ثروات، وقد استحق الإنسان شرف خلافة الله في الأرض وفقا للعهد الإلهي، لكن هذه الأحكام «تعطى إسلاميا من خلال صورتين. إحداهما: الصورة الكاملة إسلاميا، والأخرى: الصورة إسلاميا. والصورة الكاملة هي الصورة التشريعية التي تعطى إسلاميا في حالة مجتمع كامل يُراد بناء وجوده على أساس الإسلام وإقامة [مَعاشِهِ] وخلافته في الأرض في ضوء شريعة السماء والصورة المحدودة هي الصورة التشريعية التي تعطي إسلاميا في حالة فرد متدين يُعنى شخصيا بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الآخرين على أساس الإسلام، غير أنه يعيش ضمن مجتمع لا يتبنى الإسلام «بُنيانا»: (نظاما) في الحياة، بل يسير وفق أنظمة اجتماعية ومِلاّت عقائدية أخرى»[1].
فعدد من الأحكام الثابتة يتجاوز قدرة الفرد ويعتبر حكما موجها نحو المجتمع، «ومن أمثلة ذلك وجوب إيجاد التوازن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي»[2]، وقد سمّاه القرآن الكريم ﴿المِيزَان﴾: ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾(الحديد، 25). «أما المؤشرات الإسلامية العامّة التي تشكل أساسًا للعناصر المتحرّكة في المَعَاش الإسلامي، وما ينجم عنها من هذه العناصر تدخل في تكوين الصورة الكاملة لمَعَاش المجتمع الإسلامي مع أنها كثيرة [لا تُمارسُ] أي دور في الصورة المحدودة لسلوك الفرد المتدين»[3]،كالصيغ التشريعية في مقاومة الاحتكار والكنز.
وحالة الفرد المتدين الذي يعيش في مجتمع لا يتبنّى الإسلام منهاجا لحياته هي «حالة معقّدة، وتحتوي تناقضا بين التكليف الشرعي والضوارب التي لا يجد لها تبديلا في المجتمع»[4]، و«في أكثر الرسائل العملية تقدم الصورة المحدودة عادة، لأنها تتعامل مع فرد متدين يريد أن يطبق سلوكه على الشريعة رغم وجوده في مجتمع لا يلتزم بالإسلام منهجا في الحياة. ومن هنا لم تكن الصورة التي بها تلك الرسائل كافية لاستيعاب التصور الشامل لأهمية المَعَاش الإسلامي»[5]. ونصوص الأئمة المعصومين، الذين لم يمارسوا الولاية السياسية العليا في المجتمع لا يتبيّن جُلّ الفقهاء، حتى المعاصرين منهم، إن كان بعضها ضمن نصوص البُنيان المَعَاشي الإسلامي أو ضمن نصوص الفرد المسلم ضمن نظام معاشي غير إسلامي، وما كانت من نصوص النظام الإسلامي هل هي ضمن مرحلة التأسيس أو مرحلة انتقالية أو مرحلة إيلافية (مرحلة دولة إسلامية ذات مركز ملتزم بقيادة المعصوم ووحدات محايثة لذلك المركز…)[6].
لقد كان جعفر الصادق أوّل عالِم «اقتصاد» في التاريخ الأكاديمي، إذ كَتب: «رسالة في وجوه مَعَاش العباد» و«في وجوه إخراج الأموال وإنفاقها»، و«في الغنائم». ومن سوء الحظ أن كل الفقهاء –دون استثناء- لم يعودوا إليهما، ولم يستخرجوا بعدُ النظرية المَعَاشيّة الصادقية[7].
وقد كانت سورة التوبة، ضمن مرحلة إيلافية، ضمّ إيلافها مركز المدينة المنوّرة الذي يعمل وفق أحكام الإسلام المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة والصحيفة المباركة (دستور المدينة)، وكذلك وحدات الجزيرة العربية التي اكتملت بعام الوفود، تلك الوحدات تتفاوت في التزامها بأحكام الإسلام، فبعضها بقيادة ولي فقيه (أبو ذرّ في غِفار، معاذ بن جبل في اليمن)، أو بقيادة معصوم (الإمام علي عليه السلام في اليمن)؛ أو بين قيادة رِبعية تتفاوت في مدى صدق إسلامها السياسي والقضائي والحقوقي والمعاشي الجاهلي ونظيره الإسلامي (معاذ بن جبل، عتّاب بن أسيد في مكة المكرَّمة…). فالدولة الإسلامية آنئذ في فترة انتقالية حتى تتجانس الوحدات المستجدة مع المركز النبوي.
وقد عرضت سورة التوبة الأطروحة الإسلامية المكتملة في صيغتها النهائية، في البُنيان السياسي والبنيان المعاشي ورياضة النفوس، وطلبت من نواة الدولة الإسلامية (المركز النبوي بمهاجريه وأنصاره) أن يحافظوا على تلك الأطروحة، فكل الجزيرة العربية تبع لهم، فإن خالفوا كان انهيار «كل شيء»، فالرماة كانوا مجموعة صغيرة جدّا ولكنّ نظام معركة أحد جعلهم مَرْكَزَها، فلمّا عَصَوْا ما تعاهدوا عليه مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، كان انهيار كل نظام المعركة.
وفي الصورة الكاملة للبُنيان المعاشي في الإسلام، نجد أن مصلحة الإنتاج ليست مبرّرا لعلاقات التوزيع، فهذه العلاقات قائمة «على أساس قيم ثابتة، وهي القيم الإنسانية والربانية التي تعبر عنها خلافة الإنسان في الأرض»[8]، وتؤكد قيم «الحق» و«العدل» و«القسط» و«الغنى»[9] و«السّوية» (أو «الاستواء») و«الميزان» و«الكرامة»[10]، ملغيةً «الظلم» و«البخس» و«الدُّولة» و«الفقر» و«الكنز» و«التفاوت»[11]، مهما كان مستوى الإنتاج وشكله. وفي التصور الإسلامي يجب أن تتأثر علاقات الإنتاج باستمرار «بتطور خبرة الإنسان بالطبيعة وتقدمه العلمي»[12]. ولم يكن عجيبًا أن تتشرف وزيرة المَعاش المحمّدي، سيدتنا فاطمة (ع) بوِسام الله تعالى أنها استطاعت تحقيق ﴿أَن أَغناهُمُ[جميعا] اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ﴾(التوبة، 74). ولقد كان إيراد فدَك (درة تاج ذلك المَعَاش) 70 ألف دينار في السنة[13]. وذلك ما لم يكن في عهد «البَخس» اليهودي وفي عهد «البَخس» المَغَاري للعمال.
وأما علاقات الإنتاج، فقد أقامها الإسلام «على الحقوق الإنسانية الثابتة ومنطق خلافة الله في الأرض» ومن هنا لم يكن شكل التوزيع «يتجدد ويختلف بالضرورة تبعا لاختلاف علاقات الإنسان مع الطبيعة. فربط الإسلام بين العمل والملكية، وجعل العمل والحاجة أساسيْن للملكية في [المَعَاش] الإسلامي»[14]، مهما كان عصر الإنتاج.
وقد اعتبر الإسلام العناصر المتحركة في مجال التوزيع وتنظيم علاقاته، بالنظر إلى المستجدّات في عملية الإنتاج والإمكانيات التي تطرحها في إيجاد فرص جديدة للاستغلال. ومثال ذلك أن التشريع الإسلامي سمح للولاية الشرعية بفرض حدّ أعلى «لا يُسمح بتجاوزه في عملية إحياء الأرض، أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعية، إذا كان السماح المطلق لنمو القدرات المادية والآلية لعملية الإنتاج» يؤدي إلى إمكان ظهور ألوان من «البَخس» و«الدُّولة» و«الكَنْز» التي لا يُقرّها الإسلام[15].
أما العناصر المتحركة في مجال الإنتاج وتحسينه وتطوير أدواته وتنمية محصوله، وأساسها البحث العلمي والعلوم الطبيعية والمعاشية والتّقانية، ينبغي للولاية الشرعية أن تنمّيها وتطوّرها وتزيح العوائق من أمامها.
- مقولة«الكنز» في القرآن الكريم:
إذا أردنا أن ننتزع مفهوما قرآنيا، علينا أن ننتزع شبكته المفاهيمية التي تبنيه. ويكون ذلك أوّلاً بجَرد كل الآيات التي تحمل ذلك المفهوم، ثم كل الآيات التي تحمل المقولات المرافقة لذلك المفهوم.
فمقولة «الكنز» وردت في القرآن الكريم في سورتين: سورة التوبة (34-35) وسورة القصص (الآيات: 76-77-78-79-80-81-82-83-84).
إننا نكتشف أن مقولة الكنز ليست مقولة معاشية صِرْفة، وإن كان أصلها مقولة معاشية («الدُّولة بين الأغنياء») و«البَخْس»). وهي ليست ذات سيرورة حِمَوية محدودة (حِمَى الدولة المدينة النبوية، أو الحِمَى الجزيري مثلا)، بل إن سيرورتها تنزع إلى التحمية الأرضية، فهي مرتبطة بمقولة «الفساد في الأرض» و«مقاتلة الشرك كافّة» ومقالة التعاهد مع «المشركين المعتدين». فقارون كان يبغي ﴿الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾(القصص،77).
إن الكانزين ضِمْنَ «المشركين» يعبدون «الكنْز» مع الله ﴿يُقاتِلونَكُم كافَّةً﴾(التوبة، 36)، وهم متعاهدون مع كافة المشركين الاعتدائيين في العالم سرّا (التوبة، 1)، ضمن «سياحة كفرية في الأرض» (التوبة، 2). فللكانزين بمكة المكرمة والمدينة المنورة مُعاهدات سرية مع الاستكبار والشرك في الجزيرة العربية كافة، بل في الأرض كافة، مع «التربص» اليهودي (الأحبار، والتربص الساساني) والتربص القسطنطيني – البُولْسيّ (الرهبان البولْسِيّون لا الرهبان النصارى فعلًا)[16]، أي التربص الرومي الذي سيستمر حتى ظهور ﴿وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ﴾.
فـ«الكنز» هو سيرورة «الدُّولة» في الدَّوْلة الإقليمية (ذات الحِمَى الواسع) ضم ن «تعاهد» شِركي-عالمي، لابتغاء «العُلوّ العشيري» و«إمامة الكُفْر» (=اغتصاب الولاية السياسية والدينية). فأبو سفيان والعباس باعتبارهما «كانزيْنِ» كانا يبحثان عن «العلوّ العشيري» (العشيرة الأموية والعشيرة العباسية وغيرهما) متحالفيْن مع «الرّبا» اليهودي-الجزيري. وقد كان لأبي سفيان تعاهد مع هِرقل، الطاغية الرومي، ينص على أن يصبح صاحبَ وَحْدهُ مكة والحجاز ضمن الإيلاف الرومي الذي سيغطي الحجاز، لكنه في عودته من سفرته تلك وجد مكة منقسمة على نفسها بسبب ظهور الدعوة المحمدية الشريفة. وقد سعت العشريات لإمامة كُفرٍ، سياسية ودينية، وتحصلتا عليها بعد سيرورة تربُّص بإمامة الإسلام، عليها السلام. وقد استخدم عبد الله بن عبّاس ما أوتيه من عِلْم عِنده (باتصاله بالإمام علي عليه السلام من جهة، وبكعب الأحبار ووَهْبُ بن مُنَبِّه من جهة أخرى) ليصبح ﴿مِنَ الأَحبارِ﴾(التوبة، 34)، فكان بتسميةٍ مِن كعب الأحبار «حَبْر الأمة»، وقد هرب بأموال بيت مال المسلمين بالبصرة بمساعدة ﴿الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾(القصص، 76)، أحواله من هوازن، وكانت له «فئة تنصره» هناك (القصص، 76)[17]. وذلك بَعْد أن أخذ ﴿قَبضَةً مِن أَثَرِ الرَّسولِ﴾(طه، 96)، وهو الإمام علي (ع)، عِلْمًا حرَّفهُ هو وعَبده عكرمة البربري ليكتسب به مشروعية في الاجتماع المسلم.
وبذلك كانت أموال بيت المال في البصرة مِدْمَاكًا على طريق الإمامة العباسية الكُفرية، في أعقاب الإمامة الأموية، فالمال مفيد للجاه، مثلما أن الجاه مفيد للمال. وبذلك اشترى عبد الله بن عباس بآيات الله (عِلْم الإمام علي) ﴿ثَمَنًا قَليلًا﴾(التوبة، 9).
ويمكن للكانز أن يستثمر العلوم الطبيعية والتقانية من أجل أن يؤتى تكاثره في الأموال وتلبيده لها، وقد أمر الإسلام الولاية الشرعية أن تشجع هذه العلوم وتراقب استغلالها حتى لا تكون هي أيضا ﴿دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾(الحشر، 7)، وهو يستثمر أيضا العلوم الإنسانية وخبْراته النفسية والاجتماعية، إذ يعرف قيمة «الاسترهاب»بالزّينة الإخلادية وليست «الزينة الشرعية»، حتى يسْحر الأفراد والعشائر: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(القصص، 79). ولم يَظهر تفاوت طبيعي بين المسلمين الذين كانوا جميعًا «مُعتنين» دون استثناء (سورة التوبة، 74) إلا بظهور الملك «المَغاري» مباشرةً بعد وفاة الرسول (ص)[18].
وقد كان لِـ«حَبْر الأمة»[19]، أسلوبٌ «استرهابي»-«سحري» في التعامل مع المستفتين. ولذلك فرض نفسه على الفرق الإسلامية الثلاث[20]، فأكثر من 85% من أحاديث مسند الربيع بن حبيب (الخوارجي) لابن عبّاس، وكان عِكْرمة[21] رأس الخوارج. فقد كان ما يُلقيه ابن عباس «الحَبْر» يسْحَر أعينَ الناس لإقناعهم بمشروعية «الكنز»: ﴿فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاستَرهَبوهُم وَجاءوا بِسِحرٍ عَظيمٍ﴾(الأعراف، 116). فلا بد من السّحر الإعلامي والديني و«العلمي» و«الفني» والتظاهري من أجل الوصول إلى «إمامة الكفر»، ثم لابتغاء تأبيدها. فقد صنع ابن عباس عِجْلاً كان خليطا مِنْ «حُليّ القوم» ومِنْ «أثر الرسول» عليهما السلام، مثلما فعل الشهران المغاريان الأول والثاني. وبذلك ﴿اشتَرَوا بِآياتِ اللَّـهِ ثَمَنًا قَليلًا﴾(التوبة، 9).
وقد كان بناء معاوية لقصر الخضراء من أجل «استرهاب» الناس «سحريّا»، متخذا من آيات الله تعالى ثمنا لذلك، إذ «أقنع» العَدوي أن ذلك من أجل جلب احترام الروم، بينما الروم يملكون ما أعظم من ذلك القصر بكثير. وكان لبني العباس تنسيق استرهابي – سِحْري دينيا مع معاوية، فابن عباس حبر الأمة يقول عن معاوية: «إنه أفقه الناس»، ومعاوية يقول عنه الأمر نفسه[22].
لقد كان الرشيد يروي رواية عن أبي هريرة تقول إن موسى قابل آدم فقال له: «أنتَ أخرجتنا من الجنة!». فقال رجل من الحاضرين: «كيف وبينهما قرون؟»، فقال حفيد العباس وعبد الله بن عباس: «أتكذّب صاحب رسول الله؟!». فأمر به فقُطع رأسه[23]. فقد استمرّ اختلاق «العِجْل» العباسي، ذي الحلي الجاهلي والأثر الرسولي. ولذلك قال الله تعالى في السورة الفاضحة عن هذه الأسرة وغيرها من الأسر: ﴿فَلا تُعجِبكَ أَموالُهُم وَلا أَولادُهُم إِنَّما يُريدُ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُم بِها فِي الحَياةِ الدُّنيا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كافِرونَ﴾(التوبة، 55). فسورة التوبة تطلب عزل الكنزيين ونَجاسَتِهم الربوية مطمئنة المسلمين على أن المَعَاش الإسلامي سيُغنيهم كافة: ﴿ إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هـذا وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ. إِنَّ اللَّـهَ عَليمٌ حَكيمٌ﴾(التوبة، 28). و«المشيئة» الإلهية لا تتحقق إلا إذا تطابقت مع «المشيئة» الإنسانية: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم﴾(الرعد، 11).
وقد استغل «الكَنْزِيون» ضعف إيمان «الشّهْريْن»«الضّرَاريَّيْن» الأوّليَيْن وبعض «رُماة» أُحُد عام 10هـ مِن توهم إمكانية كسَاد التداول التجاري الجزيري (داخليا)، وبين الجزيرة العربية والعالم، بإعلان القطيعة مع الربا الأموي والعباسي واليهودي، فتعاهدوا معهم سرّا: ﴿قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم [القرشية] وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها [=اغتصاب فدك] وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّـهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّـهُ بِأَمرِهِ وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ [أي المنحرفين]﴾(التوبة، 24). فكان التخلف عن المركز النبوي ثم إسقاطه بالسقيفة وحوس قبيلة أسلم الأعرابية خلال الحِمَى المدني يَوْمَهَا. ﴿وَهُم أَغنِياءُ رَضوا بِأَن يَكونوا مَعَ الخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّـهُ عَلى قُلوبِهِم فَهُم لا يَعلَمونَ﴾(التوبة، 93). فقد كان البَزّاز التيمي والدّلاّل العَدَوي لا يستطيعان مراكمة رأس مال بمكة التي تُقصي بطونًا كثيرة عن رأس المال القومي (أو القروي). فلما أسلما ﴿أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ﴾(التوبة، 74)، إذ أصبح الجميع «أغنياء»، ومن حقهم ذلك: ﴿أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ﴾(التوبة، 74). وكانت لهم ولكل المسلمين ﴿رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ لَا تُظْلَمُونَ﴾(البقرة، 279). وقد عاهدا الله لما هاجرا من مكة الإقصائية: ﴿مِنهُم مَن عاهَدَ اللَّـهَ لَئِن آتانا مِن فَضلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكونَنَّ مِنَ الصّالِحينَ (75) فَلَمّا آتاهُم مِن فَضلِهِ بَخِلوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضونَ (76) فَأَعقَبَهُم نِفاقًا في قُلوبِهِم إِلى يَومِ يَلقَونَهُ بِما أَخلَفُوا اللَّـهَ ما وَعَدوهُ وَبِما كانوا يَكذِبونَ (77)﴾(التوبة). فقد أسرّوا التربص بالولاية الشرعية ورغبة الكنز باغتصاب فدك: ﴿أَلَم يَعلَموا أَنَّ اللَّـهَ يَعلَمُ سِرَّهُم وَنَجواهُم وَأَنَّ اللَّـهَ عَلّامُ الغُيوبِ (78)﴾. فالتربص بوزيرة المعَاش الفضلي/الإغنائي/المحمدي، عليها السلام، إنما هو تربص بالمَعاش العادل وبنجاح الإغناء الشامل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَالنَّاسَ[=الجميع] عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ﴾(التوبة، 74).
وكانوا يَلْمِزون المتصدّقين، لأن التصدق بما زاد عن الحاجة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(البقرة، 219)، الذي يؤدي إلى عدم وجود «الدُّولة» و«التفاوت» المعاشي، بينما هم يريدون «الدُّولة» و«الكَنْز» بسرقة فدك و«التعاهد» مع الكنزيّين (بنو أمية، العباس وبنوه، اليهود): ﴿الَّذينَ يَلمِزونَ المُطَّوِّعينَ مِنَ المُؤمِنينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذينَ لا يَجِدونَ إِلّا جُهدَهُم[24]، فَيَسخَرونَ مِنهُم سَخِرَ اللَّـهُ مِنهُم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾(التوبة، 79). فـ«الصَّدَقَة» هي التطهير المتَعهَّد دَوْريًّا للمَعَاش الفردي والجماعي.
فلقد أصبح «مَقْعَدا» ذوي التطلع للكنز «مقعدًا» مخالفًا لرسول الله، صلى الله عليه وآله، ونفسه وأنفسه، عليهم السلام: ﴿فَرِحَ المُخَلَّفونَ بِمَقعَدِهِم خِلافَ رَسولِ اللَّـهِ وَكَرِهوا أَن يُجاهِدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبيلِ اللَّـهِ﴾(التوبة، 81). وكان فرحهم كفرح قارون: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾(القصص، 76). فقد أعلن الرسول، صلى الله عليه وآله، عن قرب وفاته في حجة الوداع: «لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، وهذا مبعث فرحهم، ففُرصة التربص بالولاية السياسية العليا بثروة فدك أصبحت قريبة. ولذلك كان «قُعودهم» الشيطاني عن جيش أسامة ومشروع اجتثاث الاستكبار البيزنطي: ﴿لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَ﴾(الأعراف، 16)، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، صراط محمد وآل محمد (لأنهم الأطهر بشهادة القرآن وشهادة كل المَسَانيد)، ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾(النساء، 69).
ولذلك قال النبي الكريم، صلى الله عليه وآله، لهم: ﴿لَن تَخرُجوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقاتِلوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾(التوبة، 83)، في معارككم القادمة منذ سنة 10هـ، فكل معارككم تلك ليست في سبيل الله تعالى: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته لما هاجر إليه».
لقد رضي ذوو النزعة الكَنْزِيّة، الذين «سُحِروا» بالكانزين الأمويين وتَماهُوا بهم (العدوي، التيمي…)، فأصبحوا منهم: ﴿إِنَّكُم رَضيتُم بِالقُعودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [في آخر عهد النبي، صلى الله عليه وآله، بالتخلف عن جيش أسامة بن زيد] فَاقعُدوا مَعَ الخالِفينَ [=الأمويين وغيرهم]﴾(التوبة، 83).
لقد كان تخوفهم من كَسَاد «التجارة» الإسلامية (أي المعاملات المعاشية) وَهْما، وهم ﴿لاَ تعلمون﴾، فلم يقرؤوا سورة الأعراف: ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلـكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾(الأعراف، 96). فقد ﴿اتَّخَذوا دينَهُم لَهوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتهُمُ الحَياةُ الدُّنيا﴾(الأعراف، 51)، وكانوا من الذين ﴿يَبغونَها عِوَجًا﴾(الأعراف، 45).
لقد كان ذا معنى عظيم أن يكون الاختيار الإلهي مِن ناقة الرسول المهاجر دار الجبل رجل فقير، هو أبو أيوب الأنصاري، لكي تُنِيخ أمامَهَا، رغم كل إلحاحات «المغْتَنِين» وأقارب الرسول النِّجَاريّين والأشراف من يثرب، في أفقر أحياء يثرب. «فاتضح مِن خلال ذلك عدم تعلق هذا الرجل [الرسول] بالثروة والنسب القبلي (…) فقد حدّد طبيعة سلوكه الاجتماعي منذ اللحظة الأولى، وأيا من الفئات يساند، ولأي من الطبقات ينحَاز»[25].
لقد كان أبو ذر الغفاري، رضوان الله عليه، ذلك الولي الفقيه العظيم، متفقها في كتاب الله تعالى ودينه، وكان من المصلحين كشعيب عليه السلام (هود، 88). فقال للشهر الثالث: «لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف. وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات»[26]. لقد فهم أن ﴿إِطْعَامُ الطَّعَامِ﴾ هو توفير لمواطن الرزق مِن الحاكم للرعايا، وليس أن تُؤكله الناس، فالإسلام يأمر الولاية السياسية بالقضاء على الفقر وجعل كل الناس أغنياء ﴿أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ﴾(التوبة، 74).
وقد قال لمعاوية: «ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟». قال: «يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله، والخلق خلقه والأمر أمره؟!». قال: «فلا تُقِلَّهُ!»[27]، أي لا تجعله «دُولةً» بيد فئة قليلة. وكان ضدَّ بني أمية في بلاد الشام لأنه يعرف بالقرآن الكريم أن الكنز الأموي يؤدي إلى «إمامة كُفر» أفظع وإلى بَغي، وإلى مراكمة «التخلف» وتمدين «الأشهر» على المسلمين والبشرية وإبعاد موعد دولة المهدي والمتقين. وقد اشترى معاوية بآيات الله ثمنا قليلا فادعى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب، فقد كان الشهر المغاري الثالث يدعي في مُصحفه عدم وُجود الواو في قوله ﴿وَالَّذينَ يَكنِزونَ﴾، حتى هدّدهم أبيّ بن كعب بالقتال إن لم يُلْحقوا الواوَ فألحقوها[28].
لقد ركّز «الشّهران»«المَغَاريّان» الأُوليان «التفاوت» و«عدمَ الاستواءِ» دون الاعتماد على «الجُهد»، وصرف العدوي النظر عن تشكيات أبي ذر من السّيرورة الكَنزية التي بدأ يراكمها معاوية وبنو أمية بالشام، ولكنه ضرب بكلام أبي ذر (الذي يستحق إمارة الشام لفقهه وعدله وحزمه في الله تعالى) ورَسَّخ معاوية الذي حسب الحديث النبوي الشريف لا يستحق الإمارة لجهله بالقانون الإسلامي وصدور أحكام قضائية سيئة جدًّا في صفة تجعله ممنوعًا من الإمارة ولعدم كفاءته التدبيرية، وبذلك أثبت «الشهر» الثاني غباءه، وقد قال له مُعجبًا: «إنك كسرى العَرب!»، كأن الكسروية والقيصرية مَفْخَرة.
وأصبح أبو ذرّ يهاجم بني أمية الذين أقطعهم الشَّهْرُ المَغَارِيُّ الثالثُ خيبر (أقطعه الوزير مروانُ الذي حرَّم الرسولُ دخولهُ المدينة)، رافعا صوته بآية تحريم الكنز: ﴿وَالَّذينَ يَكنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرهُم بِعَذابٍ أَليمٍ﴾(التوبة، 34)، محذرًا من أن هذا «الكنز» سيؤدي إلى إمامة مروان وبني أمية. فغضب الخليفة. وزاد غضبه عندما أفتى كعب الأحبار، مفتي الشهور المَغاريين/الضّراريين الثلاثة، له بجواز أن يأخذ الخليفة ما يشاء من بيت المال فإذا ما أيسر ردَّ ما أخذ، في حين أن أبا ذر كان يرى أن ذلك حرام في القانون الإسلامي، وقال: «يا ابن اليهودية! أأنت تعلمنا ديننا؟!»، ولَكَزَهُ على صدر، فكاد يقلبه على قفاه. فقد غضب عثمان وانتصر لمُفْتي «البُنيان» السياسي السقيفي، وأطرد أبا ذر من المجلس[29]، وأصدر أمرًا قيصريّا/كِسْرَويًّا بنفييه إلى الشام وحرّم عليه المدينة المنورة إلى الأبد. وكان أول نفي سياسي في الإسلام. وهو قانون يسري إلى اليوم.
كان أبو ذر يعرف الشام من قبل، لأنه كان ضمن القيادة الميدانية (الحقيقية) التي فتحتها، مع مالك الأشتر، ولمّا رجع إليها بالنفي، وجد أن الكَنز الأموي ارتفع ارتفاعا مهولاً، وواصل معاوية في توزيع الخراج على الأغنياء ليصبحوا «مترفين» لا مجرد «أغنياء»، وعلى بني أمية ومن لهم بهم استزلام، في المدن والقبائل، وزاد الفقراء فقرا. فأسف للخطإ الفظيع الذي دشنه الشهران الخليفتان الأوليان إذ نصبوا بني أمية على أَحَد أخطر الأقاليم بالعالم الإسلامي، فهي على حدود الطاغوت الرومي.
فتجمّع حوله الفقراء، شيئا، فشيئا، محرضا لهم على «الاستكبار» و«الكنز»، قائلا: «عجبتُ لمن جاع كيف لا يُشهر سَيفه!»، ويُشْهِر آيته الشهيرة ﴿وَالَّذينَ يَكنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ﴾ في كل ساحات دمشق وبعلبك. فكلفه معاوية بأن يعود للقيادة العسكرية (الميدانية) مُجْبِرًا ابنَ عمه على السماح له بالإبحار إلى قبرص، لعل أبو ذر ينسى آية «الكنز» وإعداده للثورة أو يغرق في البحر أو يقتله الروم، فعاد غانما كعادته، ورجع إلى ثورته المتنامية. فحاول معاوية استزلامه وارتشاءه فلم يُفلح (مرة بثمانمائة دينار ومرة بوليمة). فبيّن له أن ما يرضيه هو «العَدْل» وحده، وما يُسكته هو القضاء على الكنز الذي بدأ بفدك وانتهى بالشام وخيبر، وأن «إطعام الطعام» هو توفير «إغناء» للجميع: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان، 8)، فليس ذلك مَنّا من الحاكم، بل هو واجب وإلاّ عليه التخلي عن الحكم: «والذي نفس أبي ذر بيده، لن أكف عما أنا فيه حتى توزّع الأموال بالقسط وحتى يسود العدلُ الناسَ كافّة»[30]. فأطرده معاوية من مجلسه وأصدر قانونا يحرّم على الناس الوقوف مع أبي ذرّ. وراح كل يوم يقف أمام باب قصر الخضراء الذي زاره الخليفة عمر يوما، قائلا: «اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له! اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له!». فتشنج معاوية، وأمر حرّاسه بأن يَحْملوه قسْرا إلى مجلسه وقال له: «يا عدو الله وعدو رسوله (…) أما أني لو كنت قاتلاً رجلاً من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين لقَتلك!». فأجابه: «ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله. بل أنت وأبوك عدوَّان لله ولرسوله، أظهرتها الإسلام نفاقا وأبطنتما الكفر!». وقام إمامُ الجمعة، معاويةُ، على المنبر ليقول: «إنما المال مالنا والفيء فيؤنا، فمن شاء أعطيناه، ومن شئنا حرمناه». فرد عليه رجل من عامة الناس الشاميين: «بل المال مالنا، والفيء فيؤنا. فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا»[31].
وهنا لجأ معاوية إلى التهديدات بالقتل، فالخطر أصبح جديا، فطلب نجدة الإمبراطور المسلم، فأصدر مرة أخرى قانونا بنفيه إلى صحراء الربذة بعد أن أساء استقباله وسماه «الشيخ الكذاب»، رغم وقوف الإمام علي عليه السلام إلى جانبه مستشهدا للخليفة وشهادة رسول الله، صلى الله عليه وآله: «ما أظلّت الخضراء ولا أفلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»، وكانت مشادة بين الإمام والامبراطور. ولقد حرّم الامبراطور على الناس تشييع أبي ذر، ولكن الأئمة الثلاثة (علي والحسن، والحسين، عليهم السلام) خالفوا الحظر، «ولم يملكوا أنفسهم فبكوا، وبكى هذه المرة، أبو ذر أيضا»[32].
وعاش أبو ذر في الربذة مع زوجته وابنه وبنته في خيمة ممزقة يُعَاني البَرْد حينًا، والقَيْظ آخر. ومات ابنه هناك، فقد قتله الجوع، ولم يكن بالكثيب نبات. ومات رجل المبدإ وأبو الصدق، وكادت جثته تملأ الجوَّ رائحة لولا أن تداركها الله بركب مارّ بالصحراء. رحم الله أبا ذر، فقد استوعب آخر أطروحة قرآنية، وآخر صيغة للبنيان الاجتماعي الإسلامي، أي سورة التوبة، فعشقها ومات من أجلها!!
آليت ألا أصطفي بالحب غيركم *** حتى أغيّب تحت الرمس بالقاع[33].
ألم يقل رسول الله، صلى الله عليه وآله، عنه: «وَعَى علمًا عجز عنه الناس»، وإنه «ملئ له في وعائه حتى امتلأ»، فهو وليّ فقيه عادل. وقال عنه: «تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث يوم القيامة وحدك». لكنه سيكون برفقة سورة التوبة، وما أجملها رفقة!!
لقد أُسْقطت دولة النبي صلى الله عليه وآله، لأن «الكانزين» وطالبي «الخَلاَق» (النصيب) في «الكنز» تآمروا عليها. وكذلك كان مصير دولة الإمام علي والإمام الحسن، عليهما السلام.
*ــــــــ*ــــــــ*
بشهادة سورة التوبة، انتصرت دولة «الذّمّة» المحمدية على «الفقر» نهائيا، وانتصرت على «التفاوت» الطبقي، مُوفِية بعَهْدها الذي قطعته في البُنْد الحادي عشر مِن «ذِمّتها» (=دستورها): «وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا [=فقيرًا]». فقد نَصّت في آيتها الرابعة والسبعين: ﴿ وَما نَقَموا [أنكروا بشدة] إِلّا أَن أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ [من مشروعه العدالي]﴾، إذ أنَّ «المُتْرَفِينَ» وَ«الكَنْزِيّين» سابقا، لم يقبلوا أن يُسَاؤُوا بالآخرين، رغم تعويض دولة «الذِّمَّة» المحمدية «الاستئلافي» (=الجَبْرِيّ لمَشَاعِرهم) بواسطة «سَهْم المؤلَّفة قلوبهم»، فبدأ «حسدهم»، ثم «كيْدُهم»، ثم «حِنْثُهُمْ العظيم» مع الداخل «المَريض قَلْبيًّا» ومع جُلّ الخارج «الكُفري»-«الاستكباري».
استنتاجات
تؤكد سورة التوبة أن البُنيان الإسلامي لا يمكن أن يكون إذا لم يكن «بريئا»، وأن على المسلمين، وخاصة مركزهم، كبار الصحابة، أن لا يتماهوا بأئمة الكُفر الذين أسلموا على مضض ولكن بقوا مع إسلامهم مشركين ﴿وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلّا وَهُم مُشرِكونَ﴾(يونس، 106)، فلا يصحّ أن يكونوا أئمة المسلمين وإن كانت لهم كل الحقوق عدا الإمامة، وبعضهم لا يُسلم أصْلا بل تظاهر به وبقي مشركًا واعيا بذلك، ومن الغباء «التعاهد» معهم سرًّا، لأنهم سيستغلون الفرصة تلو الفرصة ليصبح في الأخير هم «الظاهرين».
فالتدبير العاقل، في نظر سورة التوبة هو تنصيب «الإلّ» عليهم السلام أئمة على المسلمين، لأنهم الأكثر فهما للإسلام وميراث سيدنا محمد، أعقل كل البشر، صلى الله عليه وآله. وأن تكون لهم «ذِمّة»، تتطوّر باستمرار، مركزها كاتب عدل، ويُمْليها عامة المسلمين ذوي البراءة من المشركين قلبا وقالبًا. وينبغي في نظر السورة الكريمة نفور طائفة متفقهين في الدين من كل «فِرْقة» لتتعمّم ولاية الفقه والعقل والعَدْل (وثلاثتها شيء واحد). وينبغي كذلك أن يتركّز ويتطوّر الإيلاف المحمّدي الوليد والولاية المشتركة للمؤمنين، بتعميق «الأمر الجامع» وتحسين «الذّمّة» وأداء «الأمانة» وأداء «التداين». فإذا تحصّن البُنيان الإسلامي، وكان بريئا انتحاليا ومليا ومعاشيا، وقضى ببراءته على الجاهلية والشرك والظلم والكنز والبَخس والفقر، كان ظهور «الشّهر» المعصوم الثاني عشر على الدين كله أمرا قريبا (بداية القرن الثاني عشر للهجرة). فإذا كان الانقلاب على الأعقاب، كان تأخير ظهور البنيان الإسلامي على الدين كله، أي ظهور «العرش». ومن أجل التحصين الخارجي للبنيان، من الضروري مهاجمة الخطر الساساني والخطر الرومي خاصة على الحدود الذي «تلي» الحِمى الإسلامي، لأنهما بدآ بالتعاون مع بعض عرب الجزيرة العربية من الكنزيين السابقين في التآمر الشيطاني عليه: ﴿قاتِلُوا الَّذينَ يَلونَكُم مِنَ الكُفّارِ﴾(التوبة، 123)، فإن وقع «التخلف» عن ذلك فسيكون انهيار البُنيان. و«الكُفر» في نظر سورة الممتحنة هو مقاتلة الدين الإسلامي وإخراج المسلمين من ديارهم: ﴿قاتِلُوا الَّذينَ يَلونَكُم مِنَ الكُفّارِ﴾(الممتحنة، 9). وهذا ما حرِصَ عليه «الشّهر» المعصوم الأوّل، رغم اعتراض «الشّهر» المَغَاري/الضِّراري الأول والثاني. ولكن من سوء الحظ أنّ «الانقلابَ المَغَارِيَّ»، من قلب مركز البنيان الاجتماعي الإسلامي، فضلّ «الرّجس» على «الطهارة المطلقة»«البَرَائِيّة»: ﴿وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم [السّورة] رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ﴾(التوبة، 125). فلم يكونوا «أبرياء» و«تعاهدوا» سرًّا، ثم علنًا لما ظَهَرُوا وأصبحوا أهل ولاية سياسية، مع أئمة «الكفر» السابقين، ذوي «النجاسة»: ﴿إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هَـذا﴾، فينبغي أن لا نَخَافَ ﴿عَلَيْهِ﴾بإحداث قطيعة مع رِباهم وكَنزهم. فاستغل «الكنزيون» فرصة هذا التعاهد، ولمّا ظهروا انقضّوا على أبناء من تولّوهم وولّوهم إقليميا ووزاريًّا (يزيد بن أبي سفيان، معاوية، مروان، بنو العباس…). أمّا «التعاهديون» الآباء فقد كانوا ﴿يُفتَنونَ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَو مَرَّتَينِ﴾(التوبة، 126). فـ«الشهر المغاريُّ» الثاني، «اعتراه نسيان الصلاة، فجعل رجلا خلفه يلقنه، وإذا أومِئَ إليه أن يسجد أو يقوم فعل»[34]، فقد ﴿صَرَفَ اللَّـهُ قُلوبَهُم﴾(التوبة، 127)، فلم يعد الله تعالى يريد صلاتهم ومواصلتهم لأنها ليست صلاةً. أما سَمُّ «المَغَارِيّ الأول» فهو أمر غامض جدا إلى حد اليوم، ولَمْ يعرف قاتله[35] لأن وريثه «المَغَارِيَّ» لم يبحث فيه!! لقد كان رسول الله، صلى الله عليه وآله ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وَضَعَ «الإصر والأغلال» العانِتَة، ﴿عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم﴾(التوبة، 128). وهو ﴿حَرِيصٌ﴾على مستقبل المسلمين ومستقبل البشرية فأحسن التخطيط والسَّوْق، وحاول الإقناع بما يراه الله الحكيم الأحكم، العليم الأعلم. وأحسن تربية أفضل البشر بعده، سيدنا الإمام علي وابنيه وفاطمة عليهم السلام. فإن أعرض أكثر «المسلمين» عن قبول «الرأفة والرحمة» لعدم الاستعداد أو زواله، وتعرضوا للشقاوة الأبدية وتولّوا هم الأمر. فليرتح رسول الله لأنه قام بالواجب أحسن القيام، وعليه وعلى الشهور الإثني عشر والمؤمنون التوكلَ على الله لمواصلة المُجَاهَدة حتى يفتح رب العالمين بـ«العرش العظيم» أي «الملك العظيم» الذي يَملأ كل الأرض، دون استثناء: قال: ﴿فَإِن تَوَلَّوا فَقُل حَسبِيَ اللَّـهُ لا إِلـهَ إِلّا هُوَ. عَلَيهِ تَوَكَّلتُ. وَهُوَ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ﴾(النساء، 129)، إذ يُرَبّي المُمَهِّدين ثمّ البَانِين المُبَاشرين، على خِدمة المُلْك الخَيْرِيّ الأعظم، الذي «يَمملأ الأرض عدلاً وقسطًا». نرجو من الله تعالى أن يعجّل ظهور هذا «العرش» ويسهّل لنا سُبل التمهيد له. إنه رؤوف رحيم! *ــــــــ*ــــــــ* لقد كانت مهمة دولةرسول الله (ص) أصْعَب مِن مهمّة دولة يوسف بن يعقوب (ع). ولقد كانت مهمته التاريخية أعظم مِن مهمة سيدنا قصيّ (ع) في «تقريش» بني إسماعيل (ع) وفي قيادة المقاومة التحريرية لـ«الدار» (=الوطن المكي) وفي بناء الكيان السياسي الذي اختاره «إيلافا»… بل إن مهمته التاريخية كانت أصعب مِن مهمة خليفته محمد بن الحسن (ع)، لأنّ التأسيس ذي «البراءة» هو أساس «إتمام»«النور» على كل «الدار» الأرضي ونموذجه. «توكّل» رسول الله (ص) في تأسيس «العَرْش» الإنساني-العدالي «العظيم»، فلنكُنْ مَعَهُ في «غَارٍهِ» لكي «يتمكّن» ذو القَرْنَيْن (في ﴿الأَرْضِ﴾ كلها جميعا، معينين إياهُ ﴿بِقُوَّة﴾، نافخين في في مشروع عَرْشِهِ الأرضيّ العظيم، بمُلك آل محمد العَدَالي (سورة الكهف، الآيتان 84 و95).
*ــــــــ*ــــــــ*
يمكننا أن نعتبر أن سورة التوبة مكملة لكل سورة. فدون هذه السورة لا يمكن للمؤمن أن يكون واعيا بلحظته التاريخية وواجباته تجاهالمرحلة الراهنةوالمستقبل القريب والمتوسط. إنها سورة في السَّوْق الراهني والمستقبلي.
|
[1] الصدر (محمد باقر)، خطوط تفصيلية عن [مَعَاش] المجتمع الإسلامي، دار التعارف، بيروت، 1979، ص9و10.
[2] م. س.
[3] م. س.
[4] م. س.
[5] م. س.
[6] ينطبق ذلك مثلا على: الهادي (جعفر)، الشؤون الاقتصادية في نصوص الكتاب والسند، مكتبة أمير المؤمنين، أصفهان، 1403هـ؛ وقف (علي)، النصوص الاقتصادية من القرآن والسنة. المجتمع العالمي للتعريب، طهران، 2007 (ولم يرجعا إلى رسالتي الصادق فيعلم المجالس).
[7] انظر: المغربي (نعمان)، «الصادق أوّل عالم اقتصاد في التاريخ الأكاديمي».
[8]و 2الصدر (محمد باقر)، م. س، ص15.
[10] هذه المقولات القرآنية ليست مترادفة، لأن القرآن الكريم كتاب حكمة، لا كتاب ثرثرة. وينبغي لمفكري الإسلام التمييز بينها، ومن العجز والكسل جعلها مترادفة.
[11] الملاحظة السابقة نفسها. وذلك ما ينبغي أن نضيفه لإنجازات محمد باقر الصدر وموسى الصدر ومرتضى مطهّري ومحمد الحسيني البِهَشتي، روّاد الفكر المَعاشيّ الإسلامي الحديث.
[12]الصدر (محمد باقر)، م. س، ص16.
[13] ابن طاووس، كشف المحجّة، المطبعة الحيدرية، 1950م، ص124.
[14]الصدر (محمد باقر)، م. س، ص16.
[15] الصدر (محمد الباقر)، م. س، ص18 و19.
[من سوء الحظ أن المفكر الشهيد بحث في المفاهيم المعاشية للسنة الشريفة ولم يبحث في المفاهيم المعاشية للقرآن الكريم، بل كان جلّ مفاهيمه حَداثيّا (راجع قائمته المفاهيمية في اقتصادنا). ولم يرجع إلى رسائل الإمام الصادق في علوم المعاش، بل فقط إلى أحاديثه المتناثرة، وربما المبتورة من سياقها التاريخي أحيانا.[16] تمييز ذلك للرهبان المَوَدِّيِين عن الرهبان القسطنطينيين – البولْسِيين المتربصين بالإسلام: ﴿لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة،82)، ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ (الحديد،27).
[17] أحفاده كانت لهم فئة الفيلق العسكري الخراساني ثم «التركي» فئة تنصرهم ضد الأمويين، ثم ضد أئمة الإسلام عليهم السلام، فجعلوا الكثير من المُطهَّرين تحت الإقامة الجبرية برقابة كُلاّنية في بغداد ثم سامرّاء[القمّي (عباس)، مفاتيح الجنان، دار الأعلمي، 2003، ص391].
[18] ابن خلدون، المقدمة، دار الجيل، 2005، ص185 و186.
[19] سماه كذلك «كَعْبُ أحبار يهود اليمَن». والحَبْر في استعمال اللهجة العِبْرية واللغة الآرامية عُمومًا: الحاخام (=الحَكَم، الحكيم)…
[20] من سوء الحظ أننا نجد في مفاتيح الجنان دعاءً للعباس بن المطلب الذي هو ليس من أهل عبد المطلب ولا متبعا لملّته ولملّة سيد الخلق، صلى الله عليه وآله، ومن حسن الحظ أن هذا كان في مرة وحيدة.
ومن سوء الحظ أننا نجد في بعض مسانيد الخاصة روايات عن ابن عباس، والرواية عنه ليست محظورة ولكن ينبغي نقدها بمقاييس المُحْكم القرآني والسنّي والعقلي (وإن كان ذلك المُحْكم هو نفسه عقلا).
[21] عكرمة هو أمازيغيمنبلادالأمازيغ،أو «بربري»منبربرةالصومالية-الحبشية.
[22] انظر: البخاري، الصحيح، 3764، 3765؛ وعبد الرزاق، المصنَّف، 30985.
[23] الخطيب، تاريخ بغداد، الجزء6، ص173.
[24]«الجُهْدُ» هو «قيمة العمل» في الاصْطلاع الغربي. والفارق واضح بين دقة الاصطلاح القرآني وبين بلادة الاصطلاح الغربي.
[25] الحسيني (علي)، إنسان بعمر 250 سنة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت، 2015، ص43.
[26] و 3 الطباطبائي (محمد حسين)، الميزان، ج 9، ص276 [عن الطبري].
[28] الطباطبائي (محمد حسين)، الميزان، ج 9، ص277 [عن الطبري].
[29] ناصرالدين (علي)، أبو ذر الغفاري، مكتبة الحياة، بيروت، د. ت.، ط 2، ص107.
[30] ناصرالدين (علي)، م. س، ص113.
[31] ناصرالدين (علي)، م. س، ص114.
[32] ناصرالدين (علي)، م. س، ص125.
[33] البيت لجميل بُثيْنة، وهو من عُذرة التي ظلمها الشَّهْرُ المَغَارِيّ الأول وخالدُ بن الوليد، فكان شعرُهُمْ العذري شعرا سياسيا احتجاجيا على الاستكبار وانحراف السلطة في الحقيقة. [انظر لَبيب (الطاهر)، سُسيُولوجيا الغَزَل العُذْرِيّ].
[34] ابن الجوزي، المَنَاقب، دارالهلال، بيروت، 2003، ص223.
[35]رواه ابن حجر الهيثمي في: أسنى المطالب في صلة الأرحام والأقارب .