د.مصباح الشيباني |
نسمع أحيانا عن قضايا في دعوى التعويض عن الأضرار ضد طبيب أو جراح غير كفء قد ارتكب خطأ طبيا في حق مريض أو شوه أحد أعضائه بدلا من شفائه، ولكن مازلنا لم نسمع ولم نشاهد قضية في حق ملايين العقول التي شوهتها الانتهاكات القانونية والحماقات السياسية التي كانت سببا في تخدير أحاسيسهم بالوطنية، وتم قتلهم وهم أحياء!
لقد اكتسح منسوب التواطؤ على السيادة الوطنية، في تونس، من قبل بعض الجمعيات الأجنبية “المستثمرة” في المجالات السياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والدّينية .. جميع الأفضية والمؤسّسات، في ظل مناخ الفوضى والميوعة التشريعية التي عاشتها المنظومة القانونية التونسية بعد 2011، التي تفتقد إلى الحد الأدنى من القواعد الدستورية والمراقبة القضائية. وضمن هذه الحالة من “الميوعة التشريعية” و”المذابح القانونية” ما يتعلق بقانون إحداث الجمعيات بالمرسوم عدد 88 لسنة 2011.
بعد صدور هذا القانون تضاعف عدد هذه الجمعيات في تونس ليصل إلى 20 ألف و900 جمعية إلى حدود أواخر عام 2017، من ضمنها عدد من الجمعيات الأجنبية مثل جمعية “عيش تونسي” (الفرنسية الصهيونية) التي تعد الأكثر تمويلا؛ حيث أصبحت في أقل من سنتين، ذات قدرة عالية على تجنيد “الشباب الطّالبي”، وتعبئتهم عبر منظومة من الذّخائر المالية والإعلامية، من أجل القيام بمهام كولونيالية واختراق المؤسّسات الثقافية والتعليمية في السرّ والعلن.
لكن، نتيجة ضعف مؤسّسات الدّولة في تونس، تم اختراق هذا المرسوم من قبل مئات الجمعيات، المحلية والدولية، التي اعتمدت على مصادر غير شفافة في التمويل ومازالت هذه القضية الجوهرية من بين “الرقع المهملة” ضمن سياسة الدولة، على الرّغم من صدور عديد التقارير والدراسات التي نبّهت إلى انتشار هذه الظاهرة السلبية “المستحدثة”، من أبرزها ما صرّح به “مدير عام الجمعيات في رئاسة الحكومة “علي عميرة”، في حوار له بجريدة الشروق( 17 نوفمبر 2017) ، بوجود 189 جمعية تتعلق بها تهم مختلفة تم تصنيفها في التجاوزات الثلاثة التالية:
1ــ عدم الالتزام بالأحكام المالية( غياب الشفافية والمراقبة).
2ــ عدم ملاءمة النظام الأساسي للجمعية للمرسوم عدد88( عدد من الجمعيات تمثل روافد سياسية للأحزاب السياسية)،
3ــ قضايا تتعلق بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال.
ومن ضمن أحكام الفصل 21 من الأمر عدد 5183 لسنة 2013 المتعلق بتمويل الجمعيات، أن تخضع الجمعيات المنتفعة بالتمويل العمومي إلى رقابة ميدانية من قبل أعوان التفقديات والمصالح الفنية الراجعة بالنظر إلى وزارة الإشراف. كما تخضع إلى رقابة وتفقد من قبل هياكل الرقابة العامة طبقا للتّراتيب الجاري بها العمل”. بحسب ما ورد في هذا النص، ينبغي على كل جمعية أن تخضع إلى المساءلة ونشر تفاصيل المنح والتبرعات والتمويلات التي تتلقاها من الداخل والخارج، وينبغي أيضا أن تقوم “دائرة المحاسبات”باعتبارها المؤسسة العليا للرقابة على التصرف في المالية العمومية بمهمة مراقبة حسن التصرف فيها.
لكن، عوضا أن تكون بعض الجمعيات في تونس رافدا لتعزيز المواطنة والدفاع عن السيادة الوطنية، أصبحت، في ظل الكولونيالية الجديدة، تشكل مصدرا لتفكيك الهوية الوطنيّة والاستهتار بسيادة الدّولة، وآلية تسويقية للتدخّلات الخارجية وتخريب عقول الشباب؛ مستغلّة في ذلك الفراغ القانوني والبيئة المجتمعية “المتوتّرة” ومحدودية الرقابة والمساءلة الإدارية والقضائية. فقد ساهم هذا المرسوم وغيره من “الأقنعة الكولونيالية” الأخرى، ونتيجة السّياسات غير المسؤولة المتّبعة من قبل السّلطات الثلاث، على مدى ثماني سنوات، في تهيئة مناخ التحلل السّيادي للدولة في تونس، والزيادة في منسوب الشروخ المجتمعية وفتح أبواب الاختراقات الخارجية وعدم المراقبة على مصراعيه.
ومن مهازل التشريع التونسي وتحلّله، أن تشارك جمعية “عيش تونسي” تحت عنوان “القائمة المستقلة” مثلها مثل حالات أخرى من “القوائم الإتلافية” غير الحزبية ( مثل إئتلاف الكرامة) في الانتخابات التشريعية أمام أعين وبتواطؤ واضح من قبل ما تسمى بــ”اللجنة العليا المستقلة للإنتخابات” في سابقة تاريخية ومذبحة قانونية ومهزلة سياسية لم تعرف لها تونس مثيلا.
يبدو أن الوضع التونسي، من خلال المرسوم عدد 88 لسنة 2011، أصبح “مُنْفلتا” على جميع الصّعد؛ فلم يكن هذا القانون استجابة لاستحقاقات متأكدة يتوقف عليها التحوّل الدّيمقراطي، بقدر ما كان تعبيرة من تعبيرات السياسة الارتجالية التي سلكتها الحكومة الانتقالية “الإخوانيّة” في كل المجالات منذ عام 2011 إلى اليوم. ونتيجة لغياب الحد الأدنى من قواعد الشّفافية والمساءلة والرّقابة على أنشطة الجمعيات وعلى مصادر تمويلها ــ الداخلية والخارجية ــ تحوّل هذا القانون إلى مصدر من مصادر التّشريع للإعتداء على السيّادة الوطنية، وللفساد ولانتشار شبكات الارهاب وتبييض الأموال( وجود حوالي 189 جمعية تتعلق بها تهم إرهاب وتبييض أموال).
نعتقد أنّ الفلسفة العامة “التحرّرية” التي انبنى عليها هذا المرسوم الخاص بالجمعيات كانت آثاره السلبية في المجتمع أكثر من آثاره الإيجابية في مستويات متعدّدة؛ أهمّها يتعلق بشروط التأسيس ومعايير التّنظيم والتّسيير وبالأهداف وبطرق التمويل الخارجي للجمعيات. فقد تجلّت “الميوعة القانونية” خاصّة في شروط تأسيس الجمعيات خاصة إذا كانت من جهات خارجية. فكانت من نتائج هذا التناقض بين المنظومة التشريعية “التحررّية” للجمعيات في تونس، وبين غموض أنشطتها إلى الاعتداء على السيادة الوطنية في العلن والخفاء.
فقد توصّلت احدى الدّراسات (دراسة ميدانية قام بها مركز “إفادة”حول الجمعيات غير الحكومية في تونس بعد 14 جانفي 2011 إلى حدود شهر فيفري 2013) إلى وجود نسبة هامة من هذه الجمعيات التي لا تحترم الشّفافية التّمويلية وأن 37% من الجمعيات تقوم بالنشر السنوي لقائمات المداخيل والمصاريف المالية، كما أن 29% من الجمعيات في تونس لا تملك حسابًا مفتوحًا باسمها، خاصة الجمعيات ذات الصبغة “الخيرية” و”الدينية”؛ وهي المرتبطة في تمويلها بأحزاب سياسية وجهات خارجية؛ وذات مصادر غير مصرح بها وغير خاضعة لأيّة مراقبة من قبل مؤسّسات الدولة.
وأهمّ ورد في (الفصل 45 ) من هذا القانون أنّه يمكن لأيّ طرف تكون له مصلحة في الحفاظ على النّظام العام أن يطلب مباشرة من القضاء حلّ الجمعيّة نهائيّا في صورة عدم تحريك إجراءات الدّعوى من قبل السّلطة التنفيذية، حيث “يتمّ حلّ الجمعية بحكم صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس بطلب من الكاتب العام للحكومة أو ممّن له مصلحة (…)”، ولكن عدم استخدام هذه الآليّة من قبل عموم المواطنين والهياكل القانونية والحقوقية قد يكون سببه النقص في التعريف والإعلام بمختلف الإمكانيات التي يتيحها المرسوم للمتقاضين.
فإذا كانت هذه الجمعية “عيش تونسي” مثلاً، قد قدّمت نفسها باعتبارها “قائمة مستقلة”، فإنّه يمنع عليها اعتماد شعار الجمعية ضمن حملتها الانتخابية، لأنّ في ذلك اختراق للقانون الانتخابي ولقانون الجمعيات ولمرسوم تمويل الجمعيات أيضا، أي أنّ هذه الجمعية تعدّت على ثلاثة مراسيم قانونية في الوقت نفسه، إلى جانب اعتدائها على المعطيات الشخصية للشعب التونسي. فأين رجال القانون والمحامون والسّلطات القضائية من هذه الاختراقات أم أنّ المسألة خاضعة إلى فتاوى الأهواء؟!