لماذا لم يسقط النظام كما حلمنا وأردنا؟ لأننا بداية لم نحسن تعريفه والتعرّف عليه. هو يعرفنا جيدا وخبرنا جيدا اما نحن فلم نعرفه وبقينا في مستوى السّطح غارقين في تفاصيله. بن علي هو النظام؟ لا. لو كان بن علي هو النظام لأحسسنا جيدا لحظة هروبه بسقوط النظام ولجنينا ثمرة ذلك يوما بعد يوم. الاحساس الذي كان احساس وكفى مرتبط بالرغبة في رؤية الرّغبة تتحقّق بسرعة. بن على هو ممّا نجح النظام في التخفي به وهو اليوم ينجح في التخفي بمن عرّفوا أنفسهم عقودا متعاقبة خصوما له ولبن علي وسيتخفى في كلّ مرّة بعنوان. قد يتخفى بزعامات ودول وأفكار وشعارات وصولا إلى كلّ أحلام الانسانية المجنّحة.
كنّا نعتقد أنّ النظام لا يتشكّل ديمقراطية ولا يتشكّل إلا استبدادا. الواقع أنّ النظام استبداد دائما وأنه ظلم على الدوام. النظام يتلبّس ويتشكّل ويتقنّع. هو بالتالي معنى لا مؤسسة. ولماذا نريد سقوط النظام تونسيا او ليبيا او مصريا؟ هل النظام تونسي او ليبي او مصري؟ النظام مخترق لكل ما نرى من حدود ونسمي من دول ونعرف من كيانات. هو متعولم منذ فترة طويلة. المشكلة أننا سعينا في اسقاط بعض تشكّل هذا النظام عندنا مستعينين بالنظام الأكبر. ماذا تكون النتيجة يا ترى؟ سنتشكّل طوعا بما يجعلنا نخضع للنظام أكثر وهذا ما نشهد ونجرب تونسيا. هل نقص ارتهان تونس أم زاد؟ هو يزيد وكذلك ارتهان مصر وليبيا وغير ما أذكر من دول. هل كان الحلّ ان نستبقي بن علي؟ لا. أصلا لو أردنا ان يبقى بن علي لرفض النظام مكثه. ببساطة لأنّ النظام يحقق من المصالح بعد بن علي وبورثته أكثر مما حقق به وببطانته. نفهم جميعا النظام أو نفهم جلّه بعد أن تغوص أنيابه فينا. قبل ذلك نبتسم ونريد اسقاط النظام.
لسنا في هذا المربّع وحيدين. دول كبرى نحسبها قويّه وثريّة ومستقلّة ويطحنها النظام. يوظفها ويحكم حركتها البسيطة كما المركّبة. قد يختلف ما يفعله بها شكلا لاختلاف السياقات والمناطات ولكن الفعل ذاته جوهرا. المواطن الأمريكي والذي تعرّف دولته ماسكة بالنظام ومركزا له مطحون بدوره، مغيّب الوعي والإرادة. هو منعَّم لأنه غدا كالأنعام. ليس النظام مجتمعا ولا دولة ولا دينا ولا منظومة أفكار ولا مؤسّسة ولا جيشا. ماذا يكون عندما لا يكون في كلّ هذا؟ هو ببساطة الشرّ. نغفل عن هذا لأنّنا نرى أشكالا وصورا ونتمثّل الخير كما الشرّ مجرّدات. الواقع أنّ كلّ ما نبني ويُبنى مسكون بروح. هذه الرّوح تكون خيّرة وتكون شرّيرة وتكون مزيجا وتكون قريبة الى الخير بعيدة عن الشرّ وتكون عكس ذلك تماما. كذلك بناء الانسان يحتمل الخير والشرّ. هو نفس واحدة وهو قابيلي وهابيلي. من الصّعب تناول النبات والحيوان من هذه الزاوية. لا وجود لحيوان خيّر وآخر شرّير. لا وجود لنبتة خيّرة وأخرى شرّيرة. اذا حكمنا بخير وشرّ على حيوان ونبات فبسبب ما نسقطه من ذواتنا وأنفسنا. وحده الإنسان بمفترق الخير والشر وبمفترق الايجابية والسلبية.
هل يسعى الأنسان في الذي يسعى فيه معنويا ومادّيا فيكون في خير أو في شرّ؟ أعتقد أنّ الانسان يكون في الخير أو في الشرّ أو بينهما ثمّ بسعى سعيه رشحا بما يسكنه وبما هو فيه. اذا كان في شرّ يفكّر شرّا ويتسيّس شرّا ويتمذهب شرّا ويتديّن شرّا ويحصّل ماله شرّا ويؤسّس علاقاته شرّا. اذا كان في خير يذهب في الاتجاه المعاكس وفي كلّ أمره. الحديث عن إنسان خيريّ مطلقا وآخر شرّي مطلقا فيه من المبالغة ولا شكّ ويتعلّق الأمر بحدّيات قد لا نصادفها مجسّدة ومجسّمة. قد نلتقي خيرين من دون قدرة على تزكيتهم وعدّهم كمّلا وقد نصادف أشرارا من دون القطع والحسم أنّهم كلّ الشرّ. هذا لا ينفي أنّ القطبان يحرّكان الإنسان ويسهمان في تأثيث العالم من حولنا. هما يسكنان النقطة الفردية الذاتية ويسكنان الدائرة الانسانية الأوسع.
لن يكون العالم يوما من دون خير وشرّ ولن يتخلّص الانسان الفرد من صراع مؤرق بداخله يأخذه ساعة الى خير وساعة الى شرّ. العبرة بالوجه أين نوجّهه وفي أي اتّجاه يكون السّعي. توجّه بسيط يكفي لتكتمل الصورة ويقوم البناء. توجه بسيط يثبت يحدّد هوية الإنسان في العلاقة بالخير والشرّ وهي هويّة عصيّة نهاية المطاف ذلك أنّ الانسان كائن متحوّل في عالم متحوّل. قد نرى منه شرّا ولا نرى خيرا في الطريق اليه وقد يكون في خير ونفهمه شرّا. سرّ المرء دفين بين جنبيه لا هو يعلم عنه ولا من يبصرونه يعلمون. الانسان طلسم وفكّه مستحيل.
السؤال عن النظام ليس إلا سؤالا غير موفّق عن أنفسنا. هو يتمكّن منّا بقدر تمكّن الشرّ منّا والانسان في قرارة نفسه عابد عبد ربّه أو عابد عبد شيطان. إذا حكمنا الشرّ باطنا كيف لا يحكمنا ظاهرا وإذا حكم الخير بواطننا كيف يكون للشرّ علينا سلطان؟ بالمنطق لا يكون وبالتجربة والتمرين لا يكون. القصّة الأبلغ في القرآن الكريم هي قصّة ابليس. التفكّر فيه مفتاح عظيم. لم يكفر يوما ولم ينكر لحظة. ماذا أتى؟ اعتقد أنّه خرج من صراع الخير والشرّ وبلغ الكمال فرأى في غيره نقصا بالمقارنة. أخطر ما يتهدّد المتديّن هو بلوغ هذا الحدّ وابليس ذهب في التديّن بعيدا. بلغ حدّ التديّن والأصل أن يذعن لحقيقة أن ليس للتديّن حدّ فإذا كان فهو نصيب الآخرين ولا شكّ.
الانسانية اليوم متأبلسة في اتجاهين: اتجاه يجعلها فريسة لابليس يثبّت حريصا أنّ الخلق آدمي تافه ولا جدارة له بخلق وتكريم. اتجاه آخر يجعل المتديّن يعتقد أنّه من ابليس خلِيّ وأنه حصّل كلّ الكمالات وفاز. عندما ذهب بن علي توهّمنا أنّنا طرحنا كلّ الشرّ ودخلنا في كلّ الخير. لا. الأمور ليست بهذا التبسيط السياسي الفجّ. بن علي برغيّ في ماكينة ضخمة تحسن استبدال البراغي وتشحيمها وفكّها. إذا شئنا قلنا أنّها خارجة منّا داخلة فينا والأنفع إذا رمنا إسقاط النظام أن نقول أنّها خارجة منّا فمحيطة بنا تقيّد كلّ ما نتحرّك فيه. الشرّ اليوم نظام معقّد واسع قويّ. إذا كان خير فمن فرط شرّ يبلغ الحدّ فينقلب بعض ضدّ. لا نظام للخير وقد يكون من ذلك بغد قريب وكثير من الخيّرين بخدمة الشرّ ولا يشعرون.