ما عاد منطقيا ولا واقعيّا الاكتفاء بالنّظر في التفاصيل الوطنية والمحلّية. إذا سلكنا هكذا تكون عطالة معرفية. ومن تعطّل في مستوى المعرفة والتعرّف لا يعوّل عليه في فعل وفي إنجاز. مقاربة المبادرة التي أضحت حاملة لاسم بشرى بالحاج حميدة من زاوية أنّها فصل جديد من صراع التنويرية والتعصّب لا تستقيم.
راجعوا المغاربة والاردنيين والمصربين وغيرهم من عرب وستكتشفون أنّ هذا الحراك قائم ببلدان غير تونس أي أنّه عابر للحدود. إذا دقّقتم فستكشفون أنّ ذات المؤسسات الدولية والاممية تدعم هذا الجدل هنا وهناك. وإذا زدتم غوصا فإنّه بالإمكان العثور على تقارير استراتيجية كثيرة تقف خلفها مراكز دراسات غربية عتيدة وتشير نحو ما يرد في تقارير لعرب من طينة بشرى بالحاج حميدة. هذا يعني أنّنا لا نتحرّك نحو هكذا أسئلة بتلقائية أو بدفع ذاتي. لا وألف لا.
هناك مركز يدير ويحدّد زوايا النظر ويبني المنهج ويتقن الإخراج. الذوات المحلّية آخر من يلتحق بالمنظومة وهم مطلوبون لمجرّد الإيحاء أنّ التونسيين يرقون بفضل ثورتهم إلى القيم الليبرالية والمعاني الكونية انعتاقا من دين متعصّبين وتراث هوس وذاكرة بأسها على النفوس شديد. لماذا يُبذلُ هذا الجهد ولماذا تسخّر له طاقات وتنفق في سبيله أموال؟ لأنّ حاجة نظام الهيمنة ماسّة لتطويع الاذهان والنفوس والأذواق والعقول.
المركز الغربي يصنع التطرّف بداية ويسفّره ويسلُحه ويوظّفه لمصالحه في طريقه إلى مزيد النّفوذ. بعد ذلك يعتمد التطرّف ممثّلا شرعيا ووحيدا للإسلام وللمسلمين. يكون جزع مجتمعي غير مسبوق من التطرّف ويُجتهد في ربطه بدين النّاس القديم. فرصة تسنح للنّفخ في الليبرالية والعلمانية خلاصا واسعا. وهكذا تكون حلقة مفرغة فالمنفوخ فيهم يصبحون ذواتا مرّيخية لا هي تُبينُ ولا النّاس يفهمون عنها. لا تمثّل بشرى بالحاج حميدة الحرّية لا في مستوى التصوّر والوعي بالتعقيد ولا تقدر على تمثّلها بالمتانة العلمية المطلوبة. فلا هي عابد الجابري ولا هي عبد الله العروي ولا ترقى إلى مستوى الببغاء المقلّد هذا وذاك. هي أيضا لا تمثّل الحرّية إقداما وجرأة واستعدادا لدفع أثمان. هي تمثّل شيئا آخرا تبوح به يوما الكواليس ولكن يمكن بكثير من اليسر التعرّف على أجواء هذا الشيء بالمقارنة والتحليل.
نعم. إنّ من الملحّ والحيوي أن يطوّر التونسيون نقاشا جذريا وحاسما يعيد تركيب علاقتهم بمستقبلهم وبما ورثوه. وعندما يكون هذا النّقاش المأمول لن يعسُر التعرّف عليه وسيكون احتفاء به. حلّنا تونسيا ليس عند مغاليق الدّين ممّن فرّخهم الاستعمار عبر الوهابية ومشتقّاتها الخبيثة لمزيد توريطنا وتعطيلنا. ولا هو عند بشرى فهذه نذير تفكيك نفسي مدمّر وفوضى ثقافية لن نخرج منها الا بمزيد الضعف والهوان. إذا استدرجك الاستعمار الى مفرداته ورؤاه ماذا يبقى لك؟ لا شيء. ستفتح له أبوابا هي أصلا مُشرعة مالا وتعليما وثقافة. مجتمعنا قادر على إبداع خطاب خاصّ به يكون في ذات الآن تجذّرا وانطلاقا. كثيرون يقضّون عمر الشباب والكهولة متنصلين من دين الأباء ويكتشفون شيوخا أنّ الحياة من دون الدين عدم وعبث. ذلك أنّ الدين الموروث ضمانة معنى وعليه فإنّ النّظر فيه يطلب رصانة ومتانة وأمانة وكلّ هذا لا يتوفّر في بشرى التي تلوك الكلام لوكا وتخوض بأعلى صوت في رأسمال جمعي لا هو ملكها ولا هو ملك الحاج حميدة رحمه الله فلا ذنب له.
إذا قرأت ما أكتب هنا وحسبت أنّها تدفع ثمن حرّيتها أنّني بما أكتب جلّاد فهي واهمة. الحرّية حقّا أن يصمد الانسان فلا تعبث به سفارات وجمعيات ومراكز دراسات. ليست الحرّية لوك حرّية فلا توظّف كلمة في قهر الخلق وإذلالهم كما توظّف الحرّية . هذه مصيبة والمصيبة الأنكي أنّ هذه التدوينة ستلقى رواجا بين مغاليق الدّين وتصادف مرحا ملتحيا. لمغاليق الدّين أقول: لو لا حمقكم وخيانتكم للدين ما كانت لتكون جرأة من بشرى وما كانت لتكون جرأة ممّن لقّنوا بشرى كيف تكون الجرأة. باعث الإثنين وأجري على الله!
شرف التونسي أن يكون حاملا بكلّ سؤال مهموم ومن حقّه السؤال في كلّ أمر والبحث في كلّ حلّ ولكنّ المسقَط دوما قبيح ومن الحمل ما كذِب.