رفعت حركة ماي 68 في فرنسا شعارَ “الانتخابات فخ الأغبياء” وأعتبر الان باديو أن النظام الذي نعيشه اليوم وهم ديمقراطي وأن الانتخابات ليست أداة للديمقراطية وإنما هي تواصل للنظام الاولغرشي ماليا وإعلاميا وسياسيا .
كما يعتبر باديو أن الانتخابات ليست سوى أداة لقمع الحركات الديمقراطية، فالمسألة على حد اعتباره هي مسألة ما هو حقيقي وصادق وعادل وليست المسألة عددية فالشعوب من الممكن أن تخدع بسهولة. ويقول باديو : نحن أمام تضخم وتلاعب إعلامي متواصل .
إن كانت هيمنة الأنظمة الشمولية تُفرضُ عبر هراوات البوليس فان الهيمنة الليبرالية الديمقراطية تُفرضُ عبر الإعلام. فالنظام الأول يسيطر على الأجساد والثاني يسيطر على العقول. الإعلام هذا الوحش الكبير الذي حقق حلم الليفياثان الهوبزي ولكن ليس بالقوة بل بمكيافيلية جديدة ناعمة تخدع وتوهم الجماهير بأنهم مواطنون يمارسون حقهم الديمقراطي. في حين الليبرالية الجديدة قد أخذت شكلا آخر ألا وهو الاستبداد الناعم. إن التزاوج الرهيب بين التكنولوجي والأيديولوجي ورأس المال أنتج لنا هذا التلفزيون الذي يعتبر أخطر سلاح وقع اختراعه إلي اليوم لإخضاع الشعوب.
يقول بيير بورديو”لقد تحول الإعلام من أداة ديمقراطية إلى أداة القمع الرمزي” المؤذي بشكل خاص” يعرف بورديو العنف الرمزي على النحو التالي: هو عنف يمارس بتواطؤ ضمني من قبل هؤلاء الذين يخضعون له وأولئك الذين يمارسونه بالقدر الذي يكون فيه أولئك كما هؤلاء غير واعين ممارسته أو الخضوع له ”
يحمّل بورديو المسؤولية إلي مفكري الوجبة الثقافية السريعة لحضورهم برامج تلفزيونية دون إدراكهم خطورة تأثيث هذه البرامج. يجيب بالنيابة عنهم مدركا الأسباب التي من أجلها يتملق هؤلاء للظهور في الإعلام. ويجيبهم بـأن ما يأخذهم للتلفزيون هو الرغبة في الظهور أمام الآخر وكما يقول بريكلي أن تكون هو أن تدرك من قبل الآخر. أما اليوم أن تكون هو أن تُشاهَد على شاشة التلفزيون، وبذلك يقدم أولائك اللاهثون تنازلت كبيرة يسميها جيل دلوز تأمين دعواتهم إلي البرامج التلفزيونية.
الإعلامي كالساحر يقوم الخداع ذاته لإلهاء المشاهدين. الساحر يشدّ المشاهد على التركيز على شيء آخر فيقوم بإلهاء المتفرج وتشتيت تركيزه على نقطة غير أساسية لكي يخدعه هكذا يفعل الإعلامي أيضا يشغل المشاهد بالإثارة. تتصدر مواضيع الإثارة نشرات الأخبار من أجل تحويل الناس عن القضايا التي ينبغي أن يهتموا بها.
كيف يسيطر الإعلام على عقول شعب ما؟ كيف يساهم مفكر الوجبة الثقافية السريعة في جريمة التلاعب بالعقول؟
التلفزيون هو أخطر أداة هيمنة في يد الإمبريالية التي سيطرت من خلاله على الأوطان والشعوب والأفراد. فالحروب تشن في البداية عبر الدعاية فتعتقل العقول ومن ثم تخوض الحروب العسكرية. تشومسكي تحدث عن تكليف الولايات المتحدة الأمريكية للجنة تسمى لجنة كريل لتقود الدعاية ونجحت بدورها في التلاعب بعقول الشعب الأمريكي وتجيبشه ضدّ الشيوعية وتحمس الشعب لمطالبة الولايات المتحدة بخوض الحروب كما نجحت كذلك الدعاية في القضاء النهائي على النقابات في أمريكا.
لجنة كريل نجحت في جعل الإعلام الأمريكي يقوم بفبركة وتزيف الأخبار فسوق مجازر نسبها إلى ألمانيا فنجحت هذه اللجنة في تحويل الشعب الأمريكي من شعب ينادي بترفيع النفقات المخصصة للرعاية الاجتماعية إلى شعب ينادي بترفيع نفقات الحرب ويطالب بشن حرب على ألمانيا ونجحت أيضا مرة أخرى الدعاية في كسب رضاء الشعب لشن حرب الخليج الثانية بعد أن صوّر الإعلام الأمريكي صدام حسين على انه هتلر جديد. الإعلام لا يسير بطريقة عشوائية بل لديه منظرين فتشومسكي تحدث عن أن أهم الداعمين من المنظرين للديمقراطية الليبرالية لييفمان والذي دعي إلي ضرورة خداع الشعب الأمريكي من أجل مصلحة أمريكا وكذلك دعي إلى استثمار الدهماء والأغبياء لجعلهم أداة انتخابية فهو يصنف المواطنين إلى طبقات من الأقلية الذكية الفاعلة وطبقة أغلبية من القطيع الحائر الضال وهذا القطيع هو الذي يعمل كمشاهد فقط عليه ان ينتخب لصالح الليبرالية الديمقراطية و يعود بسرعة إلى مكانه لمشاهدة برامج التسلية المخدرة فهذا القطيع وجب ترويضه فهو في نظر الليبراليين الديمقراطيين كالطفل الذي يجب مساعدته لعبور الطريق لأنه قاصر ولا يقدر على عبور الطريق بمفرده. وقع تطوير نظرية لييفمان مع اللاهوتي رينهولدنايبوهورد حيث دعي إلى استعمال الدعاية والمنطق بدلا عن الهراوات والعسكر وذاك هو الفرق الوحيد بين النظام الشمولي الذي يعتقل الأجساد والديمقراطية الليبرالية التي تعتقل العقول.وأصبح واقع جديد هو دمقرطة الاستبداد وجعل المستبد في ثوب الديمقراطي فالأول يصل بالدبابة إلى الحكم والثاني يصل عبر تخدير الناخبين من خلال خطة دعائية لذلك أطلق بيير بوريو على الإعلاميين كلاب الحراسة الجدد.
يقول تشومسكي واصفا نظرة الليبراليين الديمقراطيين للشعب” فالقطيع الضال يعد مشكلة وعلينا منعه من الزئير ووقع الأقدام، عليهم أن ينشغلوا بمشاهدة أفلام العنف والجنس أو المسلسلات القصيرة، أو مباريات الكرة … وعليك أن تجعلهم خائفين طول الوقت لأنه إن لم تتم إخافتهم من كل أنواع الشياطين التي ستقضي عليهم من الداخل والخارج فربما يبدؤون بالتفكير، وهو أمر جد خطير، لأنهم ليسوا مؤهلين للتفكير ولذا من المهم تشتيتهم وتهميشهم هذا هو تصور الديمقراطية ”
إن أكبر وهم يسوق اليوم هو أن الإعلام هو وسيلة لحرية التعبير وللحوار العلني والتواصلية العمومية ليتعرف الموطنون على جميع الآراء السياسية ليتمكنوا بكل حرية من الانتخاب. بل هو أداة هيمنة تتحكم فيها رؤوس الأموال عبر دعم البرامج الأكثر سيطرة وتلاعب بالعقول.
ما تحدث عنه بيير بورديو في الإعلام الفرنسي ينسحب على الإعلام التونسي والعربي:
ويمثل راهنيه قصوى وخاصة ما يحدث في الإعلام التونسي والعربي من صناعة الحمق المعمم أو ما يسمى أيضا صناعة الغباء الجمعي.
إن المؤسسات الإعلامية تعيش تحت هيمنة رأس المال أولا لفرض نمط استهلاكي من أجل الأرباح المادية وثانيا من أجل التلاعب بعقول الموطنين وضمان بقائهم دون اعتراض على ما يحصل على مستوى محلي وعلى مستوى عالمي.
فالمؤسسة الإعلامية تسيير تحت ضغط الجهات المُدعِّمة فهناك تنافس داخلي بين كل البرامج حول نسبة المشاهدة والمهرج الإعلامي لا يعلم انه يقوم بتخريب العقول بل ما يحركه حب الشهرة والمال.
فالخطورة القائمة حينما تنجح الدعاية في إسقاط متعلمين في شباكها. وهنا تحصل الكارثة. ليس الإعلامي وحده الشريك في التلاعب بالعقول بيير بورديو يحمّل أيضا المسؤولية إلى من أطلق عليه مفكر الوجبة السريعة الذي يؤثث برامج الشاشة ويقوم بتحليل الأحداث التافهة على انها أساسية وغاية في الأهمية بدرجة قصوى فيشارك في عملية التلاعب بالعقول لأنه جاهل يجهل انه جاهل ويلقب نفسه بالخبير والمحلل السياسي بورديو يعتبره شريكا في هذه جريمة التضليل.
ولنا في تونس وفي العالم العربي أمثلة كثيرة من مفكر الوجبة السريعة الذي تحدث عنهم بيير بورديوفهو يرتدي ثوب المعارض السياسي يتملق للمهرج الإعلامي من أجل أن يقوم بدعوته حالما بأضواء الشهرة. يقوم هذا المفكر السريع بتجميع المعلومات بسرعة من مواقع التواصل الاجتماعي وهي منشورة بطابع نقدي ساخر للحكومة ويطرحها هذا المفكر السريع متظاهرا بالصرامة والغضب فيصف الأوضاع التي تصفها عجوز أمية باللغة العامية ليحول جميع الأوصاف الي اللغة الفصيحة بعد أن يرتبها ومن ثم يسردها بتسلسل أدبي سليم. ويعود إلى بيته في كامل الرضا والسرور لأنه صعد على منبر إعلامي يجمع أعلى نسبة مشاهدة ولا يعلم أن أعلى نسبة مشاهدة تعني أعلى دعم مالي من رؤوس الأموال الفاسدين في البلاد وأن دعوته تتم لتحاليله السطيحة يتحدث في كل شيء دون أن تقول شيء. ولو تحدث في المواضيع المهمة سيقع طرده نهائيا فالمفكر السريع يساهم في إيهام الناس والتلاعب بعقولهم عبر تأثيث برامج التهريج. في حين المثقف الحقيقي يتخوف منه الإعلامي فيستبعده والمثقف بدوره يتقزز من الإعلام ويقاطعه لأنه يعلم جيدا أن الإعلام عالم رؤوس الأموال ومدعم من الاستهلاك فالمثقف يقاوم الاستهلاك ولا يشارك في مسرحية مدعمه من دعايات استهلاكية. أما ما تحدث عنه تشومسكي من تشويه ممنهج للنقابات فهو يحدث اليوم في الإعلام من أجل الانتهاء السريع من إخضاع تونس وجعلها دولة تتخلص من جميع النقابات الاجتماعية نهائيا. من أجل خوصصة جميع القطاعات العمومية لتصبح جميع القطاعات تحت سيطرة الشركات العابرة للقارات. وإن ما نعانيه اليوم في تونس هو جراء هذا التحوّل العنيف من حكم مافيا محلية الي مافيا دولية وليكون هذا التحول ناعما دون اراقة الدماء. يقوم الإعلام بعمله في الهاء الشعب التونسي.
يقول بوريديو ” أصبحت شاشة التلفزيون اليوم نوعا من مرآة النرجس مكانا لاستعراض حب الذات. يطرح بورديو بكل ألم قضية أساسية ألا وهي أن المثقفين لا يطرحون هذه الاسئلة” هل من الواجب مقاطعة التلفزيون أو العكس؟ أو هل من الضروري تحديد شروط الحضور في برامج تلفزيونية أو لا؟ هل من المهم أن يطرح الفنان مع الصحفي مشروع عقد من أجل الظهور على الشاشة التلفزيون. كشف بورديو عن القيود التي تكبل الصحفي والتي تُفرَض عليه وهو بدوره يفرضها على المدعو. يتأسف بورديو حول أن المدعو ” كاتب أو مفكر أو فنان” لا يطرح على نفسه مجموعة من الأسئلة ولا يحاول أن يجب عنها بكامل صدق واقتناع ” هل هناك شيء يقال؟ هل هو في وضع يسمح له أن يقول ذلك؟ هل يستحق ما يقوله أن يقال في هذا المكان؟ باختصار ما الذي يفعل هناك؟ فالرقابة الخفية للإعلام تتمثل حسب بورديو في النقاط التالية :
الموضوع يتم فرضه مسبقا – الصحفي كذلك يعاني من رقابة التلفزيون-وهذه الرقابة بدورها تعود لأسباب اقتصادية.
فلا يمكن أن يتكلم الصحفي أو المدعو خارج ما يشترطه الداعم للإعلانات ” التلفزيون أداه هائلة للحفاظ على النظام الرمزي”
يحتكر التلفزيون مصدر المعلومات حينما يكون الأغلبية من المشاهدين لا يقرون شيء وجميع المعلومات مصدرها التلفزيون يبقى يجهل المواطنون لمعلومات التي ينبغي عليهم أن يعرفوها من أجل ممارسة حقهم الديمقراطي. ”
يتم اختبار الصحفيين حسب قدرتهم على البحث وعلى الإثارة وحسب قدرتهم على عرض المشاهدين كل الأحداث الغير مهمة وبثها وتسويقها على انها مهمة على أساسا انها مواضيع خطيرة فتسوق الصورة مع كلمات وهنا الكلمات هي التي ستحدث الفارق للنظرة في الصورة. سيتحول من الحدث التافه إلي مشهد درامي فيه جانب قوي من التهويل يقول بيير بورديو أهم الكلمات التي يستعملها الإعلام الفرنسي للإثارة هي الكلمات التالية إسلام إسلامي إسلاموي مسلم حجاب. وهذا ليحدث الرهبة والخوف والهلع في قلوب المشاهدين. فولبير يقول: يجب رسم ما هو رديء بشكل جيد ص
فمهمة الإعلام في فرنسا هي خلق الأفكار وتعبيرات مشاعر جديدة كالعنصرية والكره وعداء والخوف من الأجانب
يقول بورديو: التلفزيون لا يقبل كثيرا التعبير عن الفكر. لقد أقيمت علاقة سلبية بين العجالة الطارئة وبين الفكر”
” احد المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي مشكلة العلاقة بين التفكير والسرعة. ويجبر المدعوين إلى التفكير بسرعة وما يثير سخط بورديو هو قبول هؤلاء المفكرون السريعون بالظهور في الإعلام لتقديم الوجبة الثقافية السريعة.فظروف الإعلام تمنع التفكير يقول بورديو: لا يمكن لأي أحد أن يفكر في ظلها على الإطلاق والذين يقبلون هذه الدعوات هم أناس يفكرون من خلال الأفكار الشائعة والسائدة وأفكارهم يتقبلها الجميع وبسرعة لأنها شائعة يقول بورديو: هي أفكار يتقبلها الجميع تافهة مبتذلة تقليدية وسطية شائعة
فالموضوع دائما يفرض مسبقا والإشكالية غالبا تكون بلا معنى.
يفرض مقدم البرنامج سلطة عبر نبرات الصوت وكذلك عبر إيماءات الوجه فحينما يقول شكرا فهو يوافق المدعو ويشجعه على المواصلة وحينما يلمح إلى الرفض وهناك إيماءات بالوجه يقوم بها المنشط لإيقاد الحماس في المدعو وحينما تنعدم فهي إشارات لعدم إعجاب المنشط بهذا الخطاب .
كذلك لا يعترف منشط البرنامج بجهله فيقاطع المدعو قائلا: ان الجمهور لا يفهم ما تقول هنا يحمل المسؤولية للمدعو في عدم التبسيط عوض الاعتراف بجهله. يستعمل ضغط الزمن والوقت ليقاطع خطاب المدعو إذا ما نحى الخطاب بنحو لا يتماشى مع سياسات الحصة.
مهمة الاعلام يختصرها بورديو: انهم يدهشون من أشياء غير مدهشة جدا ولا يدهشون من الأشياء المذهلة ..وخطابهم ” التجانس والتماثل والتسطيح الي اللاامتثالية الي عدم التسييس ”
بالنسبة للإعلام التونسي تنقسم برامجه على ثلاثة أصناف رئيسية هناك خطة تخديرية عبر برامج تحليل كرة القدم بالنسبة لفئة الذكور وبرامج الطبخ والبرامج الغرامية للنساء وبرامج التهريج لصناعة الغباء الجمعي. أما الأقل غباء واقصد هنا المتعلمون والمفكريون السريعون فيقع إلهاؤهم بالأخبار غير المهمة وببرامج كثيرة تناقش قضايا تافهة حتى تصبح تلك التفاهة هي القضايا الرئيسة ويسقط بسهولة في شباكها المفكر السريع ويبدأ بتحليل الأوضاع على أساس تلك الأحداث غير المهمة أصلا.