في كتابه “فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ”، ذكر مالك بن نبي أن اجتماع أبناء المستعمرات في إفريقيا وآسيا حتمية لا مناص منها لمواجهة الأوليغارشيا الأوروبية التي تنظر إلى إفريقيا وآسيا على أنهما مزرعة لأوروبا؛ فما ينتج في هذه المستعمَرات يسوَّق إلى الضفة الأخرى.
والأفروسيوية، كما عبّر عنها بن نبي، هي الكيان الإفريقي الآسيوي المتحد الذي “يقرر مصير الكتل البشرية في آسيا وإفريقيا على خط نشاط يمتد بدقة من طنجة إلى جاكرتا، ولدت هذه الأفروسيوية كإرادة لهذه الملايين في أن تتضامن ضد الاستعمار الجديد الذي يحاول أن يجرها إلى حرب عالمية ثالثة، وهذا هو رد فعل المشروع الاستعماري الجديد الذي ينشئ من أجل إستراتيجية التطويق، نوعا من تدويل الاستعمار المألوف في شكل استعماري مشترك”.
نشأت فكرة الإفريقية الآسيوية وتبلورت في مؤتمر باندونغ الذي انتقده بعض الملاحظين في ذلك الوقت بأنه لم يكن سوى اجتماع للتعارف وتبادل المعارف بشأن الاستعمار وسبل الانعتاق منه، ويمثل في نظر بعضهم الآخر المؤتمر الحاسم لذي أذكى روح التحرر في الشعوب المستعمَرة وقادها في النهاية إلى نيل استقلالها. وفقدت فكرة الإفريقية الآسيوية بعد مؤتمر باندونغ زخمها السياسي ولكنها استمرت كفكرة مصيرية وتبلورت في صورة دول عدم الانحياز التي حافظ بعضها على عدم الانحياز وفضل بعضها الآخر الانحياز تغليبا لمصلحتها على مصلحة القارتين الإفريقية والآسيوية.
لا يزال هناك -رغم الشرخ الذي حدث في العلاقات الدولية- تناغم بين الدول الإفريقية والآسيوية التي ترى أنها تناضل من أجل قضية واحدة وهي رفض تقسيم العالم إلى أسياد وخدم ومقررين ومنفذين وتابعين ومتبوعين.
طويت أو كادت فكرة الأفروسيوية وظهرت فكرة الأفروروسية، بعد أن أفصح الكرملين عن نيته في تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية مع إفريقيا وهو الأمر الذي أزعج أوروبا وفي مقدمتها فرنسا التي تنظر إلى إفريقيا على أنها مستعمراتها القديمة وبالتالي فهي أحق بها، وأهلها ويتجلى ذلك في التهديد الفرنسي كما جاء في بيان الإليزي باستخدام القوة العسكرية إذا اقتضى الأمر في النيجر من أجل إعادة الديمقراطية والشرعية.
هذا التهديد الفرنسي يراه محللون رد فعل طبيعي من فرنسا حفظا لمصالحها الإستراتيجية ووقفا للامتداد الروسي في القارة السمراء، في حين يراه آخرون بأنه مناورة فرنسية غير محسوبة العواقب في ظل الاحتقان القائم بين فرنسا والاتحاد الأوروبي وبين روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
إن الأفروروسية ليست مجرد فكرة، بل هي حقيقة في صورة تحالف أفروروسي بدأت تتضح معالمه شيئا فشيئا. لا يمكن الحديث الآن عن تحالف نهائي بل عن تحالف مبدئي تم الاتفاق بموجبه كما جاء في وثيقة قمة “سان بطرسبرغ” على التزام القادة الروس والأفارقة بتشكيل نظام عالمي منصف وديمقراطي متعدد الأقطاب، والعزم المشترك على مكافحة الاستعمار الجديد وتطبيق عقوبات غير مشروعة ومحاولات تقويض القيم الأخلاقية التقليدية.
ويواجه هذا الاتفاق الإفريقي الروسي عقبة حقيقية وهي إصرار القادة الأفارقة على ضرورة اقتران الاتفاق مع روسيا بالتزام هذه الأخيرة بإنهاء الحرب في أوكرانيا وإحلال السلام، إذ ليس من المقبول -كما جاء على لسان بعض القادة الأفارقة المشاركين في القمة- أن يتم الاتفاق بشأن المسائل السياسية والاقتصادية وإهمال المسائل السلمية. إن المقترح الذي قدمه موسى فقي محمد رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي في قمة سان بطرسبرغ بضرورة إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية على أساس العدل والمنطق ليس من السهل هضمه من قبل روسيا رغم عدم اعتراضها عليه من حيث المبدأ، فهذه الحرب دخلت مرحلة معقدة وهي تحتاج إلى مفاوضات شاقة ومدة زمنية أطول مما يتمناه القادة الأفارقة.
ما يعيبه هذا الصحافي السنغالي على روسيا هي سياسة تمارسها جميع الدول فما مبرر جعله مرتبطا بروسيا دون غيرها؟ هل الدول الأخرى جمعيات خيرية تعطي من دون مقابل؟. إن سياسة الدول لا تقوم على توزيع الصدقات بل تقوم على رعاية مصالحها الإستراتيجية فهي تعطي باليمنى وتأخذ باليسرى.
إن ربط القادة الأفارقة الاتفاق مع روسيا بوقف الحرب في أوكرانيا سيجعل التحالف الأفروروسي يسير بخطى بطيئة في ظل التحديات القائمة، فروسيا تريد الفصل بين قضية الاتفاقات المشتركة بينها وبين الدول الإفريقية وبين قضية التوصل إلى صيغة للسلام بينها وبين أوكرانيا، في حين تصر الدول الإفريقية على الربط بين القضيتين.
لا تتوانى روسيا في التعبير عن صدق نيّتها حيال رغبتها في توسيع الشراكة بينها وبين الدول الإفريقية، وذلك من خلال قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال أشغال القمة الروسية الإفريقية في “سان بطرسبرغ” استعداد روسيا لتزويد بعض الدول الإفريقية بالحبوب مجانا وذلك بعد أيام من انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب الذي ترعاه الأمم المتحدة وتركيا.
إن قرار روسيا بمجانية تزويد الدول الإفريقية بالحبوب يعدُّ شكلا من أشكال المغازلة السياسية من أجل إقناع القادة الإفريقيين بصدق نياتها ومن أجل تطمينهم بسبب مخاوفهم من انقطاع إمدادات القمح الأوكراني إلى بلدانهم والتي يقدر المختصون أنها تصل إلى نسب عالية. وتعمل أوكرانيا على إرباك الخطة الروسية في إفريقيا من خلال استعدادها لضمان تدفق الحبوب إلى إفريقيا بنفس الوتيرة الحالية وربما أكبر من أجل قطع الطريق على روسيا للاستثمار في مسألة الحبوب واتخاذها وسيلة لمغازلة إفريقيا وعزل أوكرانيا.
إن التصدير المجاني للحبوب إلى ست دول إفريقية (بوركينا فاسو، زيمبابوي، مالي، الصومال، إفريقيا الوسطى وأريتيريا) كما جاء في بيان الكرملين وهي التي تعاني نقصا فادحا في هذه المادة الأساسية، ينظر إليه خصوم روسيا على أنه حل للأزمة في نطاق محدود وخلق أزمة عالمية في المقابل بسبب قرار روسيا الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب المشار إليه آنفا والذي ترعاه الأمم المتحدة وتركيا.
يرى ملاحظون أن قرار روسيا تزويد بعض الدول الإفريقية بالحبوب مجانا يعد من الناحية الأخلاقية قرارا مهينا لها، إذ أكد أداما غاي، الصحافي السنغالي والمتخصص في العلاقات الدولية أن “واردات القمح تطرح مشكلة إيديولوجية بالنسبة لإفريقيا لأنه ليس من المقبول أن تعتمد دول القارة الإفريقية على دول أخرى من أجل إطعام شعوبها وذلك بعد مرور ستين عاما على استقلال غالبية هذه الدول”. وأضاف أداما غاي: “في حال أرادت روسيا بناء شراكات طويلة الأمد مع القارة السمراء، فعليها قبل كل شيء أن تدعم سيادتها الغذائية وتساعدها على إنتاج الأسمدة والحبوب وبناء مصانع وتوفير العتاد الفلاحي الضروري لإنتاج المحاصيل”.
ما يعيبه هذا الصحافي السنغالي على روسيا هي سياسة تمارسها جميع الدول فما مبرر جعله مرتبطا بروسيا دون غيرها؟ هل الدول الأخرى جمعيات خيرية تعطي من دون مقابل؟. إن سياسة الدول لا تقوم على توزيع الصدقات بل تقوم على رعاية مصالحها الإستراتيجية فهي تعطي باليمنى وتأخذ باليسرى.
وهناك من يرى أن آفاق الشراكة مع روسيا لتي تتفاءل بعض الدول الإفريقية بشأنها، إنما هي في حقيقتها شكل آخر من أشكال التبعية كما جاء في مقال لمحمد سي بشير في “العربي الجديد” بعنوان: “روسيا في إفريقيا: شراكة أم خيار آخر للتبعية؟” قال في خاتمته: “ما يعتبر استراتيجيًّا، بالنسبة للقارّة، هو الخروج من دائرة التبعية، والولوج إلى الشراكة الندية والمناورة من خلال اكتساب قدرة المشاركة في القرار الدولي، في المكان الذي يصنع فيه. والمهم، أكثر، أن تكون القارّة فاعلا معينا بالتأثير، لا مؤثرا فيه، أي غير تابع، بل مشارك”.
في نهاية هذا المقال، هناك سؤال ملحّ: هل ستصمد فكرة الأفروروسية ويكون لها ما بعدها؟ أم ستنتهي كما انتهت فكرة الأفروسيوية؟. إن الأيام القادمة هي وحدها من يمدنا بالإجابة على هذا السؤال، وهل ستنجح خطة بوتين في إفريقيا؟ وهل ستبقى أوروبا وأمريكا مكتوفتي الأيدي أمام ما يخطط له بوتين في إفريقيا؟.