د. مصباح الشيباني |
“لو كان لا بدّ من معاناة الألم، فخيرٌ لنا أن نعانيه على يد الحكّام أفضل من نعانيه على يد رعاياهم”.
(مارتن لوثر 1483/1546)
إنّ مجرد وجود الدّساتير والقوانين واللوائح التنظيمية في الدّولة لا تعني بالضرورة سلامة إدارة الواقع وتنظيمه، لأنه في كثير من الأحيان لا يمكن إعادة النظر في هذه القوانين أكثر من لحظة صدورها أو لغاية إدخال بعض التعديلات عليها أو لاستبدلها بأخرى. وهذا هو حال بلادنا في ظلّ محاولات استنساخ ما باتت تعرف بـ” وثيقة قرطاج” دون وجود أيّة وجاهة منطقية أو استحقاق تاريخي أو معقولية سياسية لمثل هذه العملية “التعديلاية” بل إنّ وثيقة قرطاج 2 التي ستصدر قريبا، تثير من الأسئلة أكثر من الإجابات حول الدّوافع الحقيقية لإعادة استنساخها والحال أنّ أهداف الوثيقة الأولى لم تتحقق بعد؟
لقد صدرت وثيقة قرطاج الأولى ( 13 جويلية 2016) تحت شعار ” أولويات حكومة الوحدة الوطنية”، وحدّدت هذه الأولويات (الأهداف) في أربع أساسية وهي: كسب الحرب على الارهاب، وتسريع نسق النمو والتشغيل، ومقاومة الفساد وإرساء مقومات الحكومة الرّشيدة، والتحكم في التوازنات المالية، وإرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية ودعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسّسات”. فهل تحقّقت هذه الأهداف حتى ننتقل إلى ما بعدها ولم يمض على تاريخ توقيعها سنتان ؟ وهل تحقّق هدف واحد من هذه الأهداف؟
ما هي طبيعة العيوب أو النقائص التي وردت في وثيقة قرطاج الأولى: هل هي شكلية أم جوهرية؟ وهل تتعلق بأشخاص المشرفين على تنفيذها أم بمضامينها؟
ألم تحظى هذه الوثيقة بكل أشكال التمجيد وأقيمت لها الاحتفالات والندوات قبل الإمضاء عليها وبعده وأشبعونا عزفا وطربا إعلاميا عن مزاياها؟
كيف يمكن أن تتحوّل وثيقة سياسية أقلّ درجة من مفهوم “العقد السّياسي” الملزم إلى منزلة تعلو وثيقة الدّستور والقوانين الأساسية الأخرى؟
نكتفي بهذه الأسئلة لأنّه يمكن لأيّ مهتم بالشأن العام في تونس أن يطرحها أو يضيف عليها، وسوف نكتفي بالإشارة إلى بعضها.
إنّ أقلّ ما يمكن أن ننْعت به هذه الوثيقة أنّها تندرج ضمن المنطق السياسي الذي ينوب “لجنة الخبراء” الأجانب في إزالة مظلمة بمظلمة أخرى أشدّ منها ألمًا على مصير البلد. وتندرج هذه الوثيقة مثل سابقتها ضمن “فنّ المغالطات” والتسويق اللغوي والميوعة السياسية التي أصبحت متداولة في واقعنا العربي، على الرّغم من أن أصحابها أرادوا أن ينزلوها بمنزلة “صحيفة المدينة” التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم إثر هجرته من مكة إلى المدينة لآبرام الصّلح وضمان التعايش السلمي بين الطوائف والأديان في تلك المدينة. وأوّل مغالطة وردت على لسان أحد أعضاء ما يطلق عليها “لجنة الخبراء” في تصريحه بأحد الواقع الصحفية الألكترونية هي التأكيد على “ضرورة تغيير الحكومة برمّتها، خاصة وأن الحكومة الحالية ( أي حكومة الشّاهد) فشلت فشلا ذريعا في تقييم الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي”. هذا الكلام جميل في سياقه العام، لكن عندما ننزّله إلى الواقع يصبح مثل من يحدّثك عن الظُّلمة في وضح النّهار؛ وهي دليل على قمّة الاستخفاف بعقول النّاس ودرجة الانحطاط الذي وصل إليها خطاب بعض السّياسيين في تونس بعد 2011 التي يصدق فيها وصف “أحمد ابن أبي الضّياف” في نهاية القرن التاسع عشر بأنّها أصبحت ” فقيرة حسًّا ومعْنَى”.
لا أعتقد أن صاحب هذا التصريح لا يدرك أبعاد تصريحه والهدف منه وهو محاولة منه لإعادة “الهيبة المنزوعة” والمفقودة أصلا لهذه الحكومة ولداعميها المحليين ( أحزاب الإئتلاف الحاكم)، وهو يعرف مثل غيره أن هذه القصّة تحولت إلى شكل من أشكال “المسرحية” التي يعاد الاستنجاد بها كلما كانت الحكومة قادمة على وضع برنامج سياسي جديد، ولن يصدقه إلا الجهلة وذوي العقول السخيفة. فأغلب المتابعين يدركون أنّ هذه الوثيقة مثل سابقتها ليست إلا إحدى الجرعات التنويمية “التخديرية” للشعب ولبعض القوى الاجتماعية، وأداة للتعبئة لذوي المصالح والمرتزقة وأداة لهدم ما بناه أسلافنا، لأن التدخلات الخارجية ( خاصة من قبل فرنسا) لن تترك لنا أية مساحة حرة في وطننا، ولم تترك لنا فرصة واحدة حتى نتنفس الصعداء ونستعيد إرادتنا بل زادت في حالنا من سوء إلى أسوأ.
فمنذ 2011 لم يعد لحكوماتنا أية سلطة فعلية على ثروات البلاد ووضع سياساتها، بل حل محلها خبراء “الوكالة الفرنسية للتنمية” ( AFD)
وممثلي الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسّسات والدول المتدخلة ( “الكتاب الأبيض” الصادر تحت عنوان “التقرير التأليفي حول إصلاح وحوكمة المؤسّسات والمنشآت العمومية ماي 2018). فقد ورد في هذه الوثيقة بشكل لا لبس فيه التأكيد على دور هذه الأطراف في المساندة التقنية والعملياتية لإنجاز المحاور الأربعة التي تضمنتها الاستراتيجية المقترحة. وعندما نعود إلى التاريخ القريب نقف على مسألة في غاية الخطورة فيما يتعلق خاصة بتدخل “الوكالة الفرنسية للتنمية” ( مديرها في تونس منذ شهر أوت 2016 Gilles Chausse ) في جميع الوزارات والمؤسّسات والمصالح بشكل لافت منذ 2011، أحيانا باسم “اتفاقيات تعاون” وتحت عنوان تقديم “القروض” وأحيانا أخرى باسم “الهبات”، ألا تقوم هذه الوكالة وغيرها من المتدخّلين الآخرين في وضع سياساتنا الداخلية بـ”تصدير المرض وصنع دواءه؟!
عن طريق نظام “المطاوعة” أو المراوغة السياسية التي تفصل بين كيفية رؤيتنا للأشياء وما نفعله في الواقع. إن سيطرة المزاج السياسي الاستباحي لقدسية الوطن، والحالة النفسية “الاهتياجية” تلغي الواقع تماما من خلال ازدرائه، وهنا مكمن الخطورة فيها، لذلك ينبغي التنبه لها. ففي هذه الحالة يتحوّل الحكام إلى عبء على الوطن بدلا من أن يكونوا حماة له. يبدو أننا متجهون إلى نوع جديد من المجتمع أو ما يطلق عليه العض بـ “مجتمع النّفوس”، وإلى نوع جديد من الحياة. ومن علامات هذه المرحلة الخطيرة أن البعض من المسؤولين في تونس يعتقدون أنّ تفكّك الدّولة هو علامة من علامات الحرية، بينما لا ينتبهون إلى “الثّقوب السّوداء” التي انفتحت في الواقع وما أحدثته من فراغات شاسعة يمكن أن تؤدي إلى ميلاد صراعات ومعارك قديمة و لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها، لأنّها أضحت مندسّة ونباتاتها مبثوثة في كل مؤسّسات الدولة وخاصة في الخطاب السّياسي وممارسات السّلطة سرًا أو جهرًا. وعندئذ تتسارع الأحداث وتتوالى الكوارث، وتصبح السّياسة ليست إلا مسرحية تراجيدية من أجل التحكم وإدارة “الذهنيات” (gouvernementalité).
أمّا بالنسبة إلى العملاء، وإلى الذين يقبلون بالتبعية والارتهان لغيرهم، فنقول إنّ تبعيتكم وولاءكم لأسيادكم على حساب الولاء للوطن، وأنّه مهما قدمتم لهم فيها من تضحيات وتنازلات وطقوسيات في العبادة والطاعة لن تسلموا يوما من أعاصير التركيع والإهانات وسلب الإرادة لكم ولشعبكم. وتقديمك الولاء للأشخاص، مهما علا شأنهم، على حساب الاخلاص للمبادئ وحب الأوطان لن تجلب لكم إلا مزيدا من الانكسارات النفسية والهزائم السياسية واللعنات الشعبية.
كما نرجو أن تفتح هذه “المهْزلة” السّياسية عيون بعض القادة السياسيين النائمين في غفوتهم من السخرية وانهزامهم وخيانتهم لأوطانهم، لأن الذين صنعوا لهم هذه المحنة لن يعيدوا لهم أوطانهم إذا قذفتها أمواج التغيير. وهل توجد غيبوبة أقبح وأسوأ من التّطبيع مع التبعيّة والتسوّل والإذلال والارتهان إلى أعداء الوطن؟!