” لم يعد بمقدوري التنفس” جورج فلويد
احتج آلاف متظاهرين في المدن الأمريكية بعد مقتل الأسود جورج فلويد من طرف شرطي وأعيد انتاج الفرز القديم بين الملونين وذوي البشرة البيضاء في فضاء عمومي يفترض أن يكون فضاء يشترك فيه الكل على أساس المساواة في الحقوق والواجبات ويحترم فيها الجميع بعضهم البعض وفق مبادئ القانون.
في الواقع تظل الممارسة العنصرية طي الكتمان ومجال للتستر والإخفاء ونادرا ما يتم الكشف عن واحدة منها بفضل التقدم الاعلامي وثورة وسائل الاتصال الحديثة وتسليط المعرفة الضوء على جرائم السلطة وتبقى الكثير من التعديات والممارسات اللاانسانية في عداد المجهول ويعاني منه الناس دون قول يذكر.
لقد اعتقد بعض الناشطين أن فكرة المواطنة وحقوق الانسان والثقافة الديمقراطية وتجارب المشاركة السياسية قد ٌقضت نهائيا على الممارسات العنصرية المعادية وتجاوزت التقاليد العبودية البالية وأرست مجتمعا حرا يقدس أفكار التعايش والاعتراف والاندماج بين جل القوى الاجتماعية المتنافرة والمتنوعة.
لقد تعزز هذا الموقف المتفائل منذ وصول باراك أوباما وهو صاحب البشرة السمراء الى منصب الرئاسة الأمريكية في دورتين وكان بذلك أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية الذي يفوز بمنصب الرئاسة وينحدر من أصول افريقية ومن خارج الدائرة اليهودية المسيحية ولقد عمل على تدعيم هذه المكاسب.
لكن واقع الأمور كذبت هذه التحاليل وكشف عن وجود موقف عنصري في لاوعي الجماعات المهيمنة وممارسة إقصائية علنية في البيانات السياسية للكثير من الأحزاب اليمينية المحافظة والتي تدور في فلك الاقتصاد الحر وديانة الرأسمالية التي تتحرك في مدار الربح والاستغلال والاحتكار والقرصنة والتهريب.
لقد عانت الدول الرأسمالية في فترات متباعدة الكثير من الأحداث المؤلمة المرتبطة بالتمييز العنصري وما يترتب عنه من احتجاجات غاضبة وردود أفعال غاضبة شارك فيها على السواء أصحاب البشرة البيضاء والسوداء والمنحدرين من أصول جنوبية وأسيوية وعربية ومسلمة وافريقية واسبانية وأوروبية.
من المعلوم أن الفكر التقدمي هو الأكثر ادانة للعنصرية والممارسات الظالمة وأن الفكر المحافظ هو الأقل حماسة للتصدي لها ولكن الكثير من النصوص القانونية الموروثة التي وجدت منذ القدم حرصت على منع هذه الأمراض ومقاومتها خاصة في الدساتير الأولى والمواثيق والمعاهدات المبرمة في الحروب والسلم.
لم يعد التناقض المغذي للصراع يدور بين الرأسمالية والاشتراكية وبين البرجوازية والطبقة العالمة وبين المركز والأطراف ودول الشمال ودول الجنوب وبين النخبة الحاكمة والجمهور العريض من الشعب بل يتم بين الماسكين بالسلطة والمهمشين المنبوذين من أصحاب البشرة السوداء وبقية الأقليات المضطهدة.
لقد مثلت صرخة جورج فلويد الضربة القاصمة في وجدان محبي الخير والعدل في أمريكا التي استنهضت الهمم وصفعت الضمير الانساني للخروج والتمرد والعصيان انتصارا للقيم الكونية ودفاعا على الكرامة المنتهكة وتمسكا بالحق في عالم بلا ضمير وبلا بوصلة وبحثا عن أفق سياسي ما بعد رأسمالي متوحش. لقد وقع الكثير من الأحداث المرعبة في المنطقة العربية وحدثت تصفيات باردة لأرواح بريئة في فلسطين ولم يحرك العالم ساكنا وتبجحت الامبراطورية بأنها أذنت للكيان الغاصب لكي يدافع عن نفسه وشرعت العنف ولكن النار التي اكتوت بها الشعوب العربية والاسلامية نراها اليوم تحرق قلب حصون الرأسمالية.
العنصرية مرض عضال تعاني منه البشرية ويصيب المعتدي بالغطرسة والتكبر والتعطش لسفك الدماء وإرادة الهيمنة واستغلال جهد الضعفاء ويجعله يتلذذ بتعذيب الآخرين ويتراوح بين السادية والمازوشية ويفتك بالمعتدى عليه من جهة الازدراء والتبخيس وفقدان الكرامة والاستسلام والخضوع والتخلي عن الانسانية من أجل المحافظة على البقاء والتكيف مع واقع الاستعباد والعزوف عن نقد السياسة الظالمة.
والحق أن العنصرية متغلغلة في كل مجتمع ولا تغيب عن كل مجال وتظهر بشكل علني في الاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية والهرمية الاجتماعية والنفوذ الثقافي والاحتكار العلمي والتربية الشمولية وتقترن بمظاهر التسلط والعنف المباشر وباللاتسامح والتمركز على الذات وجنون العظمة وإرادة القوة.
لقد عانت الشعوب التابعة سابقا من الاستعمار والحروب الامبريالية ودفعت الثمن باهضا وقدمت كثير من التضحيات ولم يتم الاعتذار لها وجبر أضرارها حتى بعد الاستقلال وهاهي تعاني في الفترة الراهنة من عودة للاستعمار بأشكال مختلفة ومن سياسات ظالمة للدول الكبرى ومن تدخل مباشر في شؤونها الداخلية.
المفارقة أن معدلات الجرائم العنصرية تزداد في الأنظمة التي تدعي اتباعها سياسات ديمقراطية وتتظاهر باحترام حقوق الانسان وتزعم التقيد بالمواطنة والمؤسسات المدنية وتختفي من الاعلام ولا تذكر أصلا في المجتمعات المتخلفة بسبب قلة المتابعة وعدم الجدية في الاهتمام بها وكثرة انتشارها وتعميمها على الكل.
قد لا يكفي التضامن مع ضحايا التمييز العنصري ولا تعيد الادانة الشاملة للسلوكيات المهينة كرامة الذين تم الاعتداء عليهم ولذلك يجب الانخراط في الفعل المشترك الذي يكف عن إعادة انتاج هذا المرض الفتاك.
لا حل للمشكلة ولا خروج من الورطة إلا بتفكيك السياسة العنصرية والكف عن الأحكام المتحاملة وسياسة المكيالين ومنح الاعتراف للآدميين وتطبيق آلية المساواة على الجميع دون استثناء والاحتكام الى العدالة المنصفة ورسم الطريق نحو التعددية الفعلية والديمقراطية المباشرة والابتعاد عن تقديم الحلول الترقيعية والتمثلية الشكلية وترك الشعوب تقرر مصيرها بنفسها وتدافع عن سيادتها الشعبية في دولها الأصلية. لقد تخلصت جنوب افريقيا من حكومة التمييز العنصري بفضل نضالات السوء التي قادها نيلسون مانديلا ومازال الفلسطينيون الى حد الآن يخضعون لحكم الفكر الصهيوني العنصري ويكافحون بغية التحرر منه، فمتى يفهم حكام البيت الأبيض بأن الملون هو الذي صنع حضارة العم سام وأنه شارك بقوة في التحرير؟ وكيف السبيل الى وضع حد للآفة التمييزية التي تعتمدها السلطة العنصرية كأدوات للهيمنة والاستيلاء؟
كاتب فلسفي