لا يعد التخلف الذي يصيب البلدان سراً , فنحن نشاهد آثاره في كل جوانب الحياة إن أصيب بلد ما بهذا داء, فالتعليم يتردى شيئاً فشيئاً, حتى يمسي مصنعاً للجهلاء وانصاف المثقفين العاطلين عن العمل, ولو نظرنا إلى جوانب أخرى غير التعليم لوجدنا أعراض هذا المرض الخطير في كل شارع, ومستشفى, بل في كل زاوية, إنه كالسرطان بل أخطر وأبشع؛ لأنه يصيب البشر, والحجر, ويفتك بالحرث والزرع, ويشرب النهر وأسماكه, ويأكل الشجر وطيوره, وينخر كل ما كان صلباً قاسياً فيحيله إلى هباءٍ منثورٍ, إنه أقسى من كل الأوبئة.
فما سبب هذا الوباء الكاسح المخرّب ؟!, إنه الفساد … نعم الفساد هو المسبب للتخلف الذي يصيب كل القطاعات, فيصيبها بالشلل ومن ثم التراجع القهري المدمّر, فيقتل الناس في المستشفيات لافتقارها للضروريات من الأجهزة والأدوات, وفي الطرقات؛ لأنها لم تعبّد كما ينبغي ولم تجهّز بالعلامات المرورية ومختلف المستلزمات, ويخرّب التعليم في المدارس والجامعات, فينتج الأمية والجهل والتخلف ومن ثم الفساد, فتعود دورة حياة الفاسدين من جديد أقوى وأشد من ذي قبل؛ لتمرّسهم, وتراكم الخبرات في الخداع, والاحتيال, والتظليل, وسبل التخلص من قبضة القانون إن كان فيه بقية من حياة.
إن معظم بلدان العالم لم تعتصم من الفساد ولكن بنسب متفاوتة, وذلك حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي تصدره كل عام منذ 1995م, ليصبح أهم إصدارات المنظمة, إذ يبيّن التقرير معدّل الفساد في كل دولة استناداً إلى آراء الخبراء والمسؤولين, فيصنّف (180) بلداً وفقاً لمؤشر الفساد في قطاعها العام, وذلك حسب مقياس يتراوح بين (0-100) درجة, إذ تمثّل درجة الصفر البلد الأكثر فساداً, بينما درجة (100) تشير إلى البلد الأكثر نزاهة, وقد توصل المؤشر حسب تقرير سنة 2018م إلى أن أكثر من ثلثي بلدان العالم قد حصلت على أقل من (50) درجة, إذ بلغ معدّل الدرجات لكل بلدان العالم (43) درجة.
وكشف مؤشر الفساد عن واقع مظلم للشرق الأوسط وشمال إفريقيا, إذ حصلت المنطقة المذكورة على معدّل (39) درجة, فأغلب دول المنطقة عجزت عن مكافحة الفساد, هذا لو كانت قد واجهته بالفعل, فمعظم بلدان المنطقة فسادها بالغ رأس السلطات فيها, وهو السبب الرئيس لتجذر هذه الظاهرة, فمن يتربع على رأس السلطات والمؤسسات, ويستدرّ المال بالفساد هو المسبب الرئيس للوضع الفاسد السائد, فكيف يتوقع منه مواجهة ما صنع وشيّد لنفسه من دولة فساد ناخرة داخل الدولة الأم المنخورة المصابة بشبكات العصابات المتنوعة من النافذين إلى كل مفاصل الدولة, إذ يشترون من الأراضي ما يشاءون بأقل الأثمان وأبخسها, ويؤجرون أملاكهم من مباني وسيارات وغيرها للدولة, وينفذون المشاريع الوهمية بأعلى الأجور وأضخمها, ويمررون صفقات الفساد بعمولات (Commissions) تصل لملايين الدولارات.
ولم تكن دول إفريقيا بمنأى عن الواقع الفاسد, بل كانت الأسوأ على الإطلاق, إذ هي في الحضيض, فقد بلغ معدل مؤشر الفساد فيها (32) درجة للدول الإفريقية غير العربية – مع إضافة السودان والصومال- , والأفسد فيها دول الصومال, والسودان, وجنوب السودان, وأنغولا, منذ 2017م.
وقد الحقت منظمة الشفافية العالمية بتقريرها عدة توصيات كان أبرزها:
ضرورة ضمان الحريات السياسية؛ لكي لا يسيطر الفاسدون على السلطة في المؤسسات الحكومية لفترات طويلة فيزداد الفساد ويستشري. في كل مفاصل الدولة.
مراجعة القوانين الانتخابية, والالتزام بشفافية تمويل الانتخابات؛ لتسهيل وصول دماء جديدة بعيدة عن التكتلات الحاكمة.
تحقيق استقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية؛ لاجتثاث الفساد والمساعدة على إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن.
تفعيل قوانين حق الحصول على المعلومات.
لكن رغم ما تقدّم به التقرير من معلومات فهو لا يعدّ سوى خطوة من رحلة الألف ميل لمكافحة الفساد, وهي رحلة شائكة وعسيرة خصوصاً في بلدان عشّش الفساد فيها وباض, وأطمئن لأذرع باتت تطال جميع مفاصل الدولة وسلطاتها, والمؤسسات غير الحكومية أيضاً, فله اليد الطويلة في البرلمان والوزارات كافة, والسلطة القضائية, وله شريحة واسعة من الداعمين من المنتفعين والمغفلين على حدٍ سواء, كما له مؤسسات غير حكومية كالإعلامية لزيادة عدد الداعمين والمؤيدين, أو الحفاظ على نسبتهم, وله عاملون في مواقع التواصل يلمّعون صورته كلما أسودّت, حتى بات تخليص البلد من الفساد اكثر تعقيداً يوماً بعد يوم, والفاسدون أكثر أمناً واطمئناناً.
* الباحث: م. م معتز محمد الكنعاني