جمهوريّة “وينزويلا البوليفاريّة” والأصل في نطقها وكتابتها باللّغة العربيّة بالواو وليس بالفاء، لأنّها تنطق واوا وليست فاءا عند أهلها وسكّانها في لغتهم، وإنّما الفاء التي يستعملها العرب هي نقل عن نقلٍ من اللغة الأصليّة عبر لغة أخرى هي أساسا الإنقليزية والفرنسيّة رغم أنّها في الإسبانيّة وهي لغة رسميّة هناك، بل ولغة التّسمية أصلا، تنطق واوا وليس فاء.
إذن هذه التّسمية كما عرِفت منذ 1998 نسبة إلى “سيمون بوليفار” القائد الأسطورة الأمريكي الجنوبي الذي خاض عديد المعارك ضدّ المستعمر الأوروبي عموما والإسباني خصوصا في تلك الرّبوع التي اكتشفها الرّحالة العربي المسلم “الخشخاش” قبل “كولمبس” بعقود تصل إلى المئات من السّنين ولعلّ هذه المعلومة لا تكاد تعرف عند الناس ولا تكاد تذكر في مناهج الدّراسة في جلّ مدارس العالم رغم حقيقتها. إذ يصرّ الأوروبيون على تشويه التاريخ وتحوير الحقائق نحو تمجيد حضارتهم التي نفّذت المجازر والحروب والاستعمار ونهب الشعوب واستعبادها ونقل بعضها من قارّة إلى أخرى للسخرة وللاسترقاق وللموت في المناجم وفي الحقول وتحت المقاصل. فالتاريخ يكتبه المنتصر بكلّ أسف.
أعود إذن إلى تقديم هذه الجمهورية حيث أنها تقع في شمال النصف الجنوبي لقارّة “أمريكا” على البحر الكارييبي تحدّها شرقا “غويانا” وغربا “كولومبيا” وجنوبا “البرازيل”. وهي من الجمهوريّات العريقة في إقليمها إذ استقلّت عن إسبانيا الاستعماريّة سنة 1811 م ورسّخت استقلالها ذاك سنة 1821 م بالانفصال عن جمهوريّة “كولومبيا الاتّحاديّة الكبرى” ، على مساحة جغرافيّة كبيرة تناهز الــ 920 ألف كم2 . يعيش فيها ما يناهز الــ30 مليون ساكن.
وكما هو معلوم، فإنّ هذا البلد يعيش أزمة سياسيّة لفتت أنظار كلّ العالم إليها، منذ اندلاعها يوم 23 جانفي يناير كانون الأول 2019، عندما أعلن “خوان غوايدو” رئيس البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة نفسه رئيسُا، بعد أن اتهم الرئيس “نيكولا مادورو” باغتصاب السّلطة، “مادورو” الذي أدّى اليمين الدّستوريّة لولاية ثانية قبل 13 يوما في انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة قسمت الشعب الوينزويلّي إلى قسمين: قسمٌ مناصر لأطروحات الاستقلال والاشتراكية الاجتماعية، عُرِف في المحطات السياسيّة السابقة منذ تولّي “هوغو شافاز” الحكم في 1998 بأغلبيته الساحقة في البلاد، وقسمٌ مناصر لأطروحات العلاقة الناعمة مع المارد الأمريكي في القارّة، وضرورة القطع مع السياسات الاشتراكيّة وانتهاج الليبراليّة اليمينيّة في سياسة البلاد وحكمها.
وقد ظهر ذاك الانقسام بوضوح في نتيجة تلك الانتخابات حيث صعد اليمين الليبيرالي للبرلمان وصعد اليسار الاشتراكي للرئاسة، ممّا كرّسه، وكرّس معه الفرقة بين أبناء البلد الواحد، وكرّس عنفا كثيرا وكسرَ عظم كبيرين بين الفريقين كذلك. عنفٌ تطوّر لأيام قليلة فقط سقط خلالها قتلى وجرحى في صفوف الشعب الواحد، لتبرز على السّاحة الإقليمية والدّوليّة هذه الأزمة التي يبدو أنّها عميقة الجذور، مؤثّرة في الواقع السياسي المحلّي والعالمي، لها حتما آثار في العلاقات الجيوسياسيّة الدّوليّة في قادم السّنوات.
فماهي إذن تلك الجذور؟ وماهي تجلّياتها؟ وكيف نفهم تأثيرها في واقع الأزمة؟
للإجابة عن هذا السؤال المفصل، يكون واجبا عليَّ أن أتناول معطًى اقتصاديا هامّا للغاية لا يمكن فهم تلك الجذور دون عرضه وتسليط الضوء عليه، وأقصد الثروة النفطيّة الهامّة لهذا البلد.
فالبلد يعتبر من الدول النفطية الكبرى في العالم، وهو عضو مؤسّس في الـ”أوبك”، المنظّمة التي لم يعد قرارها بيد أعضائها، بقدر ما كانت عليه إبّان تأسيسها، ولعلّ هذه الثروة النفطيّة التي يعوم عليها البلد هي سبب من أسباب ما يعيشه اليوم وعاشه قبل اليوم من أزمات. فحسب تقديري، فإنّ الثروة التي تمتلكها بعض الدّول في العالم تمثّل سببا عميقا أو مباشرا في تكالب القوى العظمى المستبدّة عليها، فتنخر جهدها من خارجها بأيادٍ دائما ما تكون من داخلها، فيحقّ عليها القول بأنّ “لعنة ثروتها قد أصابتها”.
فـ “وينزويلا” تنتج النفط والغاز، ولها احتياطات يقدّر بعض المختصّين بأنها تفوق تلك التي تملكها “المملكة العربية السعودية”، كما تمتلك كذلك احتياطات هامّة جدّا ممّا يسمّى بـالنفط غير التقليدي وهو الخام الثقيل والقار ورمال القَطِران. وقد كانت هذه الثروة السبب الرّئيس في نهضة البلد منذ فترة الوفرة في سنوات الثمانينات إلى غاية أزمة 1994 التي عصفت بتلك الفترة نحو ركودٍ اقتصاديٍّ وتضخّم كان السّبب الرئيس لها، فساد السلطة الحاكمة وتحويل الأموال للخارج. وهي الحالة التي ساعدت على ظهور “هوغو شافاز” وبروزه كقائد شعبيّ أراد أن يعيد الدّفّة من اتجاه الأغنياء المتنفّذين الذي يشفع لهم ولاؤهم للأمريكان في عدم محاسبتهم، نحو اتجاه الطبقة الوسطى والمفقّرة. والذي نجح في أخذ زمام السّلطة في 1998.
هذا إلى جانب ثروات أخرى قد لا تكون “وينيزويلّا” معروفة بها إلّا أنها هامّة فيها، وأقصد الحديد والألمنيوم والكهرباء المائيّة عبر سدودها العديدة الكبيرة ذات الصيت العالمي، وعديد المنتجات الأخرى كالزّراعيّة التي وإن كانت هامّة فهي تحتاج إلى مزيد من حلول زيادة الإنتاج.
وطبيعي جدّا أن تُسيل تلك الثروات عموما والنفط خصوصا لعاب الإمبريالية العالميّة التي تعتبر هذا البلد ضمن حديقتها الخلفيّة في مجالها الاستراتيجي. فالبلد بقي عمليّا تحت يافطة دول الحلف الصامت الأمريكي في القارّة لعقود طويلة خلت، تطبيقا لما يُسمّى بمبدأ “مونرو” نسبة للرئيس الأمريكي “جيمس مونرو” والذي يقوم على عدم السّماح لأيّ قوّة تنافس “الو.م.أ.” في القارّة الأمريكيّة بشطريها. مع أنّي لا يمكنني أن أغفل بعض الأحداث التي أغضبت “العم سام” مثل تأميم الثروات النفطيّة الذي وقع في 1976 والذي أعطى كل حقوق إدارة تلك الثروات إلى شركة “بترول وينيزويلا” العملاقة، الحدث الذي لم يغيّر في مدى تبعيّة البلد آنذاك شيئا كثيرا، فكان أن حوّلت التغمة الحاكمة والمتواطؤون معها من البورجوازية الفاحشة جلّ تلك المزايا والعائدات من ذهب واعتمادات وأصول إلى خارج البلاد اتجهت أساسا إلى “نيويورك” و”لندن” وبعض العواصم الأخرى كــ “بريكسال” ، ممّا أوجد حالة من الرّضا على البلد عموما دون التفكير في صاحب الثروة الأصلي وأقصد الشعب الوينيزويلّي نفسه.
لكنّ تلك الحالة من الرّضا والتّواطؤ تغيّرت منذ وصول “شافاز” – سلف الرئيس الحالي زمنا وأصل فكره ومنهجه – للحكم. فالرجل وصل إلى السّلطة على أساس برنامج قدّمه للشعب الوينيزويلّي يقوم على الاستقلال السّيادي في الثروات وفي المجال الاستراتيجي العالمي بنزع اليافطة الأمريكية من فوق شركات وطنه ومقدّراته الطبيعيّة. البرنامج والرؤى التي تبنّاها الشعب الوينزويلي نفسه فكان أن جاءت نسب التصويت على الرجل بأرقام ملحوظة الارتفاع.
ومنذ تلك الفترة أصبحت “وينيزويلّا” تملك الأخشبين: الثروة والاستقلاليّة. الصفتان اللتان إن اجتمعتا في مجتمع أو في بلدٍ إلّا كان مسرح حروب في داخلها بين أهلها التّائقين إلى الحرّيّة، وأهلها عملاء الخارج الذين يكونون دائما ودوما من أهل السطوة الماليّة والرّبح الفاحش رغم قلّة عددهم. ومسرح حروب في خارجها مع القوى التي لا تريد أن يفكّر الضعفاء في الاستقلال بقرارهم فما بالكم بأصل الثروات التي يملكونها.
فــ “وينيزويلّا” شقّت عصا الطاعة التي تفرضها “الولايات المتّحدة الأمريكيّة ” على جيرانها وعلى غير جيرانها. وهي ومنذ أن فعلت، تدفع ثمن فعلتها تلك وتقاوم كلّ شهر وسنة إلى أن وصلت طاقة المقاومة إلى الفشل فحدث ما حدث.
فالولايات المتحدة ومنذ وصول اليسار الاشتراكي للحكم في “وينيزويلّا” وهي تمارس سياسات تطبعها المؤامرة تلو المؤامرة للإطاحة بمن يحكم هناك. فهي التي دعمت “كارمونا” في انقلابه على “شافاز” سنة 2002، تخطيطا واعترافا في ذلك الوقت ولولا التفاف الشعب حول رئيسه المنتخب حديثا في تلك الفترة وفرض رجوعه في حركة تعتبر من أكبر الحركات الشعبيّة تأثيرا في تاريخ السياسات الشعبيّة القاعديّة لبقي الرئيس “شافاز” معتقلا إلى مماته ربّما، ولاعتلى اليمين البورجوازي المتواطئ مع الأمريكان الحكم منذ ذلك التاريخ.
الشعب الوينيزويلّي الذي خرج آنذاك على بكرة أبيه مطالبا بإرجاع زعيمه المنتخب، وكسر الانقلاب الذي نفّذه مجموعة متواطئة مع “الو.م.أ.” في سيناريو يشبه كثيرا السيناريو الذي يحدث اليوم. خروجٌ كان لتأكيد المكاسب التي أصبحت واضحة للعيان في ذلك البلد في تلك الفترة و في ما تلتها من فترات، حيث يشتري الوينيزويلّي البنزين والنفط بأرخص سعر في العالم، ويعيش في تغطية صحّيّة عموميّة متطوّرة ومتقدّمة في الانتشار والنّوعيّة، ويزاول تعليما مجّانيّا في كلّ مستوياته بنوعيّة جيّدة.
ثمّ ومنذ ذلك الانقلاب الفاشل والمؤامرات الأمريكية الغربيّة في تصاعد مستمرّ توضع خططها في “واشنطن” وتحرّك خيوطها في عواصم عديدة أهمها “لندن” و”بريكسال” و”الرياض” بــ “المملكة العربيّة السعودية”، حيث تدور كلّ تلك المؤامرات والخطط على إفشال الاقتصاد الوينيزويلّي عبر ضرب مقوّمه الرئيس، وهو العائدات النفطيّة عبر السّوق النفطيّة العالميّة التي أصبحت “الو. م. أ.” تتحكّم فيها بطريقة غير مباشرة عبر السعوديين والبحرينيين والإماراتيين. يتمّ ذلك منذ سنوات عبر التخفيض من الأسعار وحصار الشركات الداعمة لوجستيّا لقطاع النفط المتعاملة مع ذاك البلد للابتعاد عنه، وعدم التعامل معه خشية إجراءات عقابيّة أحاديّة الجانب غير صادرة عن مجلس الأمن مثلا. هذا إلى جانب تجميد عديد الأصول الهامّة الوينيزويلّيّة المودعة في “الو.م.أ.” منذ حكم اليمين إلى اليوم، وتجميد أصول الذّهب المودع في “لندن” المقدّر بأكثر من 1.5 مليار دولار، وفي “بريكسال” كذلك إلى اليوم.
ولذلك فإنّي لم أستغرب الموقف الأمريكي خصوصا والغربي عموما المؤيّد لــ “غواييدو” عندما أعلن نفسه رئيسا في خطوة لا أراها ديمقراطية أبدا. والجماعة هم الحاملون للواء “الديمقراطية” في العالم كما يسوّقون لأنفسهم منذ عقود، وأنهم يؤيّدون حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وهم بذلك الدّعم إنما يكشفون ورقة التوت عنهم حيث لا يحطّ دعمهم وتأييدهم سوى أين تكون مصالحهم، في حركة واضحة فيها تزييف للحقيقة تزييف جليٌّ وظاهرٌ. فمتى كانت الدّيمقراطية تصعّد حلفاءَهم فهم يدعمونها، ومتى صعّدت مناوئيهم فهم لا يعرفونها بل ويحاربونها، في تجلّ تامّ للنفاق السّياسي الذي لا مثيل له عبر التاريخ.
فقد جاء التأييد من “الأمريكان” ومن دول “الإتحاد الأوروبي ومن “كندا” ومن حلفاء “واشنطن” في أمريكا اللاتينيّة والتي منها جارَي “وينزويلا” وأقصد “البرازيل” اليمينيّة حديثا و”كولومبيا” التي لها فترة طويلة تسير في ركب “العمّ سام”، ممّا صعّب الأمر على “مادورو” كثيرا، فالرجل لا متنفّس جغرافي له عبر موقعه مع جيرانه بل يحارب ترصّد هؤلاء الجيران له قبل أن يحارب مؤامرات الدّاخل من بني وطنه. تأييد جاء متزامنا بتهديدات أمريكيّة ذات طابع دبلوماسي عبر التحشيد العالمي ضدّ حكومة “مادورو” وذات طابع عسكريّ يذكّرنا بذاك الذي نفّذته إدارة الرئيس “ريغن” في “بنما” في الثمانينات عندما دخلت على دولة ذات سيادة واعتقلت رئيسها من قصره الجمهوري في حركة رعناء لم يشهد التاريخ مثيلا لها. قبل أن يعلن الرئيس “مادورو” أنّ بلاده تعرّضت لهجمة إلكترونيّة شرسة استهدفت المنشآت الحيويّة في البلاد وأنّه – أي الهجمة – صدرت عن القيادة الجنوبيّة للبنتاغون وأنّ منها ما صدر من ولاية “هيوستن” و”شيكاغو بالتحديد. وأنّه سيطلب مساعدة أصدقائه الرّوس والصينيّين والإيرانيّين لمواجهة تلك الهجمة.
كما أنّ من المعلوم أنّ “الو.م.أ.” قد فرضت عقوبات مباشرة على صادرات البلد النفطية مع اندلاع الازمة زيادة على تلك التي المفروضة سابقا، لمنع نظام طمادورو” من السّيولة النقديّة التي يمكن أن يحرّك غيابها تمرّد الجيش والشّرطة عليه، الجيش الذي أعلن منذ السّاعات الأولى للانقلاب على ولائه للنظام القائم ولا يدعم الحركة الالتفافيّة على الدستور.
ولعلّ أكبر تلك العقوبات والإجراءت هي عمل إدارة “ترامب” مع “غوايدو” على الاستحواذ على شركة “سيتجو”النفطيّة التابعة لشركة النفط الوينيزويليّة العملاقة، والتي تعمل في “الو.م.أ.” وطلبهم من حرفائها تحويل كلّ دفوعات شراءاتهم النفطيّة من “وينيزويلّا” إلى تلك الشّركة في “نيويورك”، رغم أن “روسيا” تمتلك نصف أسهم هذه الشركة.
لكن، وإذا ما علمنا هذا التربّص الخطير جدًّا بهذا البلد وبحكومته، فهل يمكن السؤال عن صداقات “وينيزويلّا” وعلاقاتها التي يمكن أن تكون لها صمّام أمان أمام تهديدات “الولايات المتحدة” وحلفائها القريبة والبعيدة؟
إنني وعندما أتفحّصُ قائمة الدّول التي سارعت برفض الانقلاب هناك في “وينزويلّا” ودعم “مادورو” أجدها قليلة العدد، إذا ما نظرنا إلى كمّها، فقد انحصرت في “روسيا” و”تركيا” و”إيران” و”الصّين” التي بان لي قليل من التّحفّظ في بيان خارجيّتها الصادر متأخرا بعض الشيء عن الحركة الانقلابيّة. بلدان يجمعها البعد الجغرافي كصفة مشتركة بينها مع هذا البلد المنعزل جيوسياسيّا في محيطه. إلّا أنّ لبعضها وأقصد “روسيا” إمكانيّات هامّة لنصرة حليفتها سياسيّا واستراتيجيّا عبر وجودها في مجلس الأمن في “الأمم المتّحدة”.
فلــ “روسيا” مركز تنصّت إلكتروني متطوّر جدّا هو الأكبر خارج حدودها متمزكز في جزيرة صغيرة شمال “كاراكاس” العاصمة في قاعدة “أنطونيو دياز” في “لاأوركيلا”، كما لا يخفى أن العلاقة العسكريّة المباشرة بين البلدين متقدّمة جدّا، يحاول القائمون عليها إرسال إشارة واضحة لها للأمريكان في كلّ فترة، كانت آخرها طلعات من طائرات مدمّرة متطوّرة روسيّة يمكن تحميلها بقاذفات نوويّة، أعلن على أنّها قد تمّت بنجاح.
إلّا أنّ هذه العلاقة في نظري وإن كانت لا بدّ منها من حيث أنّها تريح النظام هناك بعض الشيء،إلّا أنها لم تكن رفيدة لعلاقات اقتصاديّة متقدّمة نجحت في انتشال البلد من براثن “الأمريكان” المنغرسة فيه والتي كانت تعمّق جراحه كلّ سنة. فالبلدان لم يكن لديهما في أي وقت مضى تفكير اقتصاديّ استراتيجي طويل المدى كان يمكن أن يتصدّى للحصار الاقتصادي الذي تفرضه “الو.م.أ.” على تحرّكات “وينيزويلّا”الماليّة عالميّا بحكم سيطرتها على المسالك والإيداعات واللوجيستيك المالي العالمي، بفضل سيطرتها على “بريكسال” عاصمة المال الأوروبيّة التي تقبض فيها “وينيزويلّا” أموال بيع نفطها هناك منذ عقود، ولم تفكّر في نقل تلك العمليّات أبدًا إلّا في الآونة الأخيرة عندما أعلنت عن نقل شركتها القابضة لتلك الأموال إلى “موسكو” وهو ما أعتبره ضربا من ضروب الارتجال اللحظي حيث كان من المفروض أن يكون قد وقع منذ فترة طويلة لا الآن، وبتخطيط دقيق وبنقل إيداعات غير فجئيّ التّحرّك.
فمبيعات النفط الوينزويلّي تتمّ بالدّولار وباليورو، وهذه المعضلة التي تجدها أمامها كلّ دولة تصدّر نفطها، إذ بهذه المعضلة تجد هذه الدول نفسها مرتبطة بالرغم عنها بالمعايير التي لا يمكن التملّص منها في أسواق النفط العالميّة والتي من أساسها أن تكون مكشوفة الغطاء لا حرّيّة نقديّة كبيرة لها في التّحكّم في إرادتها الإئتمانيّة والمصرفيّة.
فالبلدان لهما علاقات اقتصادية تتجاوز الــ 25 مليار دولار إلّا أنها منحصرة في الأسلحة والمعدّات الثقيلة، وفي القروض والإئتمانات الماليّة التي تقدمها “روسيا” لــ “وينيزويلّا” مقابل ضمانات تسديد مرتبطة بمبيعات النفط المتوسّطة المدى. لعلّها لا ترتقي إلى الضامن الكبير لبقاء الحلف بينهما، خاصّة إذا ما ساوم الغرب الرّوس على التّخلّي عن صديقهم “مادورو” مقابل ضمان تلك القروض ومقابل ترك الملف “الأكراني” الذي يقتربون لحدودهم عبره، ويشكّلون تهديدا حقيقيًّا لهم هناك. بعد أن أصبحوا كذلك في “جورجيا” وفي “قرغيزيا” ، الحديقة الخلفيّة لـ “روسيا”.
لذلك فإنّي أقدّر أن الإجراءات التي يمكن أن تقوم بها “وينيزويلا” مع أصدقائها فهي لن تكون ناجعة تماما بالنظر إلى تغلغل التّبعيّة الماليّة إلى الغرب عموما. لكنّي أزعم ان لــ “روسيا” مجال مناورة واسع يمكن له أن يحتوي الآثار الجسيمة لتلك الإجراءات الغربيّة، جيث يمكن لــ “روسيا” مثلا بيع نفط “وينيزويلّا” بالوكالة وتحويل عائداته إلى “كاراكاس”، الحركة الممكنة في سوق المال والتي لا يمكن لدولة صغيرة أن تقوم بها بالنظر إلى وجوب اقتران القوّة السّياسيّة والعسكريّة في إجراء كهذا.
أمّا الصّين، فإنّي لاحظتُ خيارها المحافظ جدًّا في الأزمة يظهر لي في تصريحات مكتب خارجيتها المقتضبة التي أبحث عن كلمات تدلّ على دعم صريح لنظام “مادورو” أو تحذير شديد اللهجة للـ “و.م.أ.” من أنها ستعارض بكلّ الوسائل السّياسيّة وغير السّياسيّة تدخّلها في الشأن الوينيزويلّي فلا أجدها فيها. موقف لعلّي أرجعه إلى تقليديّة السّياسة الصينيّة الخارجيّة منذ انفتاحها في تسعينيّات القرن الماضي على مشاكل العالم. وإلى أنّها لم تستقرّ بعد قوّة عالميّة تؤثّر مباشرة في علاقات الدّول البعيدة عن مجالها الجغرافي، فالوقت لم يحن بعدُ لـ “الصّين” للضرب سياسيّا بيد من حديد في كلّ زاوية من العالم، مثل ما تفعله الــ “و.م.أ.” ، فهي لا تزال غير مهيّأة لذلك بعدُ وهي التي تضع أولويّة الاقتصاد على أولويّة السّياسة في هكذا قضايا استراتيجيّة عالميّة.
أمّا الدولتان اللتان سارعتا بدعم “مادورو” وشجب الانقلاب وأقصد “تركيا” و “إيران”، فهما في تقديري لا يمكن لهما أن تتجاوزا الدّعم السّياسي المعلن لخطوة ملموسة نحو تخليص “وينيزويلّا” من براثن الأمريكان، فهما تعانيان مثل “كاراكاس” من تلك البراثن منذ عقود. إذ إنّ موقف الدولتين وإن اختلفت أسبابه الدّاهليّة الخاصّة بكلّ منهما، فهو لا يمكن له أن يغيّر شيئئا ملموسا على الأرض هناك على بعد آلاف الكيلومترات عن عاصمتيهما.
فموقف “إيران” ينبع من عدائها التاريخي مع الــ “و.م.أ.” ويستند دعما لنظام “مادورو” على مبدإ “عدوّ عدوّي هو صديقي”، وقد حاولت لسنوات عديدة مضت إقامة علاقات مميّزة مع النظام المعادي للـ “و.م.أ.” في “وينيزويلّا” منذ قيامه هناك. وفعلا فقد ارتقت تلك العلاقات إلى علاقات خاصّة بين البلدين إلّا أنها لم تكن ولا يمكن أن تكون موازنة لضغوط الغرب على نظام “كاراكاس”، بل فقط داعمة له في المحافل الدّوليّة مثلا مع قليل من التجارة البينيّة التي تبقى متدنّيّة الاهمّيّة والحجم بالنظر إلى البعد الجغرافي أوّلا وبالنّظر إلى طبيعة إنتاج البلدين الذي لا يشكّل حاجة لكلّ منهما ثانيا، وبالنظر إلى العقوبات الاقتصاديّة التي يف رضها الغرب على كليهما ثالثا.
أمّا “تركيا” ، فإنّي أقرأ في موقفها مبدئيّةً واضحة أكثر من مصالح قد تجنيها منه، فالبلد جرّب انقلاب صيف 2016 الذي يعلم أنّه خطّط له في الــ “و.م.أ.”، والنظام المنتخب الذي يصل إلى الحكم في كلّ مناسبة انتخابيّة بنتائج مريحة كثيرا له يعلم قبل غيره أنّ الغرب عموما لا يساند الديمقراطيّة والانتخابات النزيهة إذا ما فاز فيها خصمٌ لهم، بل ويعمل على الإطاحة به كما وقع له هو في ذلك الصيف المشهور.
وعليه، فإنّ الأتراك إنّما يناصرون نظام “مادورو” المنتخب، ولا يناصرون الانقلاب هناك مبدئيّا، حتى ينسجموا مع أفكارهم ومنهجهم وسياسياتهم الداخليّة الخارجيّة، هذا إلى جانب أنّهم في مسار تنافس لدود مع الغرب يعلمون أنهم يُعاملون من قبلِه معاملة الأعداء في المنطقة وفي العالم، لمنهجهم الجديد الذي يطبع سياستهم منذ وصول الإسلاميين إلى الحكم ولشخصيّتهم الواضحة، ولمواقفهم الصّارمة ضدّ مصالحه هناك. مناصرة فيها نصرة حقّ أكثر من أن يكون لها أثر اقتصاديّ أو سياسيّ بالغ الأثر.
وعليه، فيمكن القول في آخر هذه الفقرة بأنّ الحمل السّياسي والمسؤوليّة السّياسيّة والتاثير البالغ الذي يمكن أن يكون لــ “روسيا” وللـ “الصين” هو أكبر واكثر طلبا من ذلك الذي يمكن لــ “تركيا” ولــ “إيران” أن يكون لهما.
إذن… وعلى أساس ما سبق ، يمكن لي أن أقرأ في الأزمة الوينيزويلّيّة قانونا قديما جديدا، يمكن أن يكون توصيفه ضربا من ضروب اللّامنطق واللّافكر، وقد يكون إعلانه ضربا من ضروب التّخلّي عن الديبلوماسيّة التّحليليّة. قانونٌ أراه سائدا في كلّ العلاقات الدّوليّة منذ قرون، إلّا أنّه واضح المعالم في السّنوات الأخيرة، مثل ما أنّه يسود كذلك في مجتمع الدّولة الواحدةوأقصد ما يسمّيه البعض بقانون الغاب، وهو أن يبتلع االقويُّ الضّعيفَ بلا سبب أتاه المسكينُ ولا ذنبٍ اقترفه، فذنبه هو ضعفه لا غير. في تجلٍّ كامل لغياب قيمة العدل في العلاقات الفرديّة والجماعيّة وصولا إلى العلاقات الدّوليّة.
والأزمة الوينيزويلّيّة هي فصلٌ من فصول ذاك القانون الذي لن يبقَ مع البشر لنهايتهم، فهي معركة كسر عظم بامتياز بين خيار أغلبيّة في شعب، ومؤامرة أقلّيّة فيه مع قوى خارجيّة قويّة الحضور والتأثير داخل البلد وخارجه. وليس من حلّ في هكذا حالة حسب التجارب التي مرّت في ماضي العلاقات الدّوليّة في العالم، وما حدث في التّحرّكات الشّعبيّة فيه سوى المقاومة: مقاومة تلك المؤامرة بما يمتلكه المقاومُ من إمكانيّات، لعلّ أهمّها في تقديري وأكبرها وأبلغها تأثيرا هي … الثّباتُ على المبدإ والإصرار على الانتصار.