بقلم: د. نعمان المغربي (باحث في الإسلاميات تونس) |
-
تطابق بين مقدمة سوره طَه (الآية1 – الآية12) وخاتمتها (الآية 133-الآية135)
آيات المقدمة | آيات الخاتمة |
﴿ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾ | ﴿لَعَلَّكَ تَرضى﴾ ﴿وَالعاقِبَةُ لِلتَّقوى﴾ |
﴿الرَّحمـنُ عَلَى العَرشِ استَوى ﴾ | ﴿وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى﴾ |
﴿إِلّا تَذكِرَةً لِمَن يَخشى ﴾ | ﴿أَوَلَم تَأتِهِم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الأولى﴾ |
﴿طه ﴾ ﴿ حَديثُ موسى ﴾ |
[ضمير المخاطَب في الآيات] [قريب من الله إلى درجة أنه لا يُسمَّى] ﴿بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الأولى﴾ |
﴿أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ﴾ | ﴿بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الأولى﴾ |
﴿فَإِنَّهُ يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى ﴾ | ﴿فَسَتَعلَمونَ﴾ |
﴿فَقالَ لِأَهلِهِ امكُثوا﴾ | ﴿وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ |
﴿إِنّي آنَستُ نارًا ﴾ | ﴿وَاصطَبِر عَلَيها﴾ |
﴿لَعَلّي آتيكُم مِنها بِقَبَسٍ﴾ | ﴿لَعَلَّكَ تَرضى﴾ ﴿وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى﴾ |
هذا ما يُثبت –مرةً أخرى- أن السورة هي كيَان متماسك وليست شتاتًا فوضويّا ينطق به إنسان سكران…! إنها دائرة مفتوحة داخل الدائرة القرآنية، وهي قادرة على أن تفسر بعضها ببعض، بالاستعانة بمجمل الكيان القرآني وسيرة «من كان خلقه القرآن».
-
«المُوسى» هو صاحب «الوَسْي»
«المُوسَى» تجريدًا هو قائدُ مَسْعَى «الوِساية»[1] وهي الاستقامة والاستواء (أي العدل)[2].
تتطابق «المشيئة السياسية» (أو المشيئة سياسيًّا بالأدقّ) في الدولة الموسوية مع «المشيئة» في جنة آدم الأولى والثانية، ودولة نوح عليه السلام، التي كانت بعد الطوفان. وقد كانت جميعها عالمية. فالآية تنص على وراثة لكل الحِمى الطاغوتي العالمي. ولكنّ قوم موسى بن عمران لم يرثوهم إلا في أيلة.
كان تَبْوِيئ دولة (أي مَنْح بيئتها الحِمَويّة) موروثا عن دولة الطاغوت المصري، مقتطعا مِنْ حِمَاها الشامي. ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)﴾ (الشعراء). لم يرثوهم في كلّ الحِمَى المصري، بل في أيْلَة فقط أوّلا، ثم جنوبيّ الشام، ثم الشام مَشْرُوعًا.
وكذلك «مسلمو» النبيّ محمد، إذ لم يغتنموا فرصة تبْويئِ وَسَطِ العالم لهم[3] ففتحوا كل العالم، إذ دخلوا مشروع العاديات ضَبْحًا[4]، ولقد كانت فرصة لملء كل العالم عَدْلاً، ولكنهم عطّلوه، مهيّئين عوائق داخله.
ولقد سمَّى الله تعالى أُمَّةَ موسى بن عمران « بني إسرائيل»[5] وليست هذه التسمية نَسَبِيّة، بل هي تسميةُ مشروعٍ، حتى يكون المعلِنُ لانتمائه لهذا المشروع مَشيئيا– مُسْلِمًا مثل ذلك الإسرائيل (يعقوب بن إسحاق) صاحب المشروع الأصليّ لتلك الأُمَّة، أي «إسراء» «الإيلِ»، بمعنى المُسْرِي والكادح على سبيل الله تعالى. فهو «الإسراء» نفسه، وليس مجرد «مُسْرِ». والنبيّ محمد هو إسراءُ الإِيلِ في النَّبَوِيّةِ الخاتمة، أي ﴿عبده﴾(الإسراء،1) أو ﴿عبدِ الله﴾ (البقرة،23) باللغة المُضَرِّية- القرآنية.
وكما قال الله تعالى لآدم وزوجه: ﴿اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِن حَيثُ شِئتُما وَلا تَقرَبا هـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكونا مِنَ الظّالِمينَ﴾ (الأعراف، 19)؛ قال الله تعالى الكلام نفسه للزاعمين أنهم « بَنُو الإسرائيلِ» (أي أتباع عَبْدِ الله) من شاميين وبعض المِصْريين، ثم من عَربٍ، ثم من آسيويين وأوروبيين وأفارقة، وغيرهم، ففضّلهم الله تعالى بحَمْل رسالة هداية العالمين، كما فضل آدم لإنباء الملائكة (البقرة، 47)، وأعطاهم جنةَ جنوبيِّ الشام، ويعقوبُ شاميُّ الأصلِ: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (البقرة، 57).
آدم وزوجه | ﴿اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ﴾ (البقرة، 35) | ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ (البقرة، 35) | ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ (البقرة، 35) |
بنو إسراءِ الإيلِ | ﴿ادْخُلُوا هَـذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ (البقرة، 58) | ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ (البقرة، 58) | ﴿إِذ يَعدونَ فِي السَّبتِ﴾ (الأعراف، 163)
﴿كُلوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقناكُم وَلا تَطغَوا فيهِ﴾ (طه، 81) |
فبعد أن كان بنو إسْرَاءِ الإِيل « مُعَبَّدين» مِنْ قِبَلِ الفرعونِ ومِلّئِهِ كان مشروعُ مُوسَاهُم هو وِسَايَتُهُم: ﴿فَأَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ﴾ (سورة طه، الآية47)، و«الإرسال» هو التحرير الأوّلي لحظوظ التمكّن مَنَّ الله عليهم بتبْوِيئِ حِمًى مقتطعٍ من الحِمَى الفرعوني[6]: ﴿وَأَورَثنَا القَومَ الَّذينَ كانوا يُستَضعَفونَ مَشارِقَ الأَرضِ وَمَغارِبَهَا الَّتي بارَكنا فيها وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنى عَلى بَني إِسرائيلَ بِما صَبَروا وَدَمَّرنا ما كانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وَقَومُهُ وَما كانوا يَعرِشونَ﴾ (الأعراف، 137). فقد كان السَّوْقُ المُوسوي أن تصبح الشام الفرعونية مُبَوَّءًا إسلاميا، أي أن يُصبح يعقوب أباهم، قبل تطهير كل الحِمى الفرعوني (الإقليم المصري). فقد كان إسرائيل ذا عُرف ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ (آل عمران، 93)؛ وكانت مشيئته مستسلمة لمشيئة الله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة، 133).
ولقد اقتضت مَحَطَّة أَيْلَةَ في دولة موسى بن عمران الشاميّة أن تَكون له وَزارة في القيادة، وهي الهارونية. وبدأ هذا الإشْراك في السَّوْق الرِّسْليّ: ﴿ أَرسِل مَعِيَ بَني إِسرائيلَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 105) بالقطر المصري، وتمّ بالدولة الموسوية. فقبل أن تتوفّى مهمة موسى الأولى ويذهب لتلقي الألواح أبدع الهارونية فقال: ﴿أخلُفني في قَومي وَأَصلِح وَلا تَتَّبِع سَبيلَ المُفسِدينَ﴾ (الأعراف، 142). وذلك لما تمتّع به من فصاحة، علاوةً على النبوّة والعبودية لله تعالى: ﴿ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي﴾ (القصص، 34).
ولم يكن رسول الله، محمد بن عبد الله، ﴿بِدْعًا من الرّسل﴾، بَلْ كان على سُنن الرسالات التي كانت مِن قبل رسالته، فأبدع الهارونية لما كانت مُوَاعدة الله تعالى للرسول والمسلمين بتَبُوك (وهي غير بعيدة عن مكان مُوَاعدة موسى بن عمران) قائلا: ﴿اخلُفني في قَومي وَأَصلِح وَلا تَتَّبِع سَبيلَ المُفسِدينَ﴾ (الأعراف، 142)، لأنه يمكن أن يُقتل في الطريق أو على أرض تبوك، في صراعه ضد الحصار البيزنطي. فهو موسى ذلك العصر، إذ أن معنى «المُوسى» هو مَوْضع «الوِسَاية» والاستقامة، ولكل عصْر مُوسَاهُ الفرديّ أو الجماعي، ومحمد هو المُوسَى الأعظم. ولذلك كان «المُوسى» هو الأكثر ذكرًا بين أنبياء القرآن الكريم، وهو المُوسَى مجرَّدًا ومفهومًا، وليس موسى بن عمران تخصيصًا.
إن ما فعله النبي محمد بن عبد الله، هو ما فعله موسى بن عمران، وما فعله النّبيّ صموئيل إذ قال «لمسلمي» عصره: ﴿إِنَّ اللَّـهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ (البقرة، 247). ذلك هو المُلْك الذي يكون ﴿مِنْكُم﴾، ﴿مِنْ أنْفُسِكُمْ﴾ (سورة التوبة، الأية128).
لقد أُقْصي هارون بن عمران، في مدينة الرسول «أيْلة»، وكانت عزيمة مُسَطَّحِ السامرِيّ إيلاء نفسه بَدَلاً لرسول الله، بدلاً من الهارونية، وبذلك أقصوا الله تعالى عن العبادة، وعبدوا العجل، ولقد أصبح العجل جَملَاً «يَتَبَرَّكُونَ بِبَعْرُورِهِ»[7]، مِنْ أجل تأسيس أيْلةَ التسلطيّة- الانقلابيّة.
كان رسول المسلمين في أيْلة وفي يثرب ﴿غَضبانَ أَسِفًا قالَ. بِئسَما خَلَفتُموني مِن بَعدي﴾ (الأعراف، 150)، فالحقيقة التي هنا مرآتُهَا هُناك، وجلاؤها هناك، وشرحها هُناك، وتطبيقها الأمثل هناك. وقال رسول الله تعالى: ﴿أَعَجِلتُم أَمرَ رَبِّكُم؟﴾، إذ أنهم ما انتظروا تواريه، بل عجّلوا باتجاه عِجل مسطَّح السامريّ. ولم يأخذ موسى بن عمران برأس أخيه عُنفا، بل حبّا وعطفا، واستنطاقا له أمام «المسلمين» الفاسقين عن أمر ربهم: ﴿قالَ يا ابنَ أُمَّ إِنَّ القَومَ استَضعَفوني وَكادوا يَقتُلونَني﴾ (الأعراف، 150). وحتى لا يشمت الأعداء بالهارون قدّم له الرسول خارطة تجعل المشروع الإلهي– التاريخي باتجاه دولة العَدل العالمية لا ينقرض تحت مؤامرات السامريين الذين عَجِلُوا أمْرَ ربِهم السياسيّ، فكان الكُلُّ يستنطق تلك الخارطة الرسولية ليصنع دليل مرحلته باتجاه ﴿ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ (الأنبياء، الآية105).
ذلك هو معنى قوله تعالى في استجداء هارونية العُرف الموسَوي وصلتها العظيمة بالخالق لكي تَستطيع أن تُناور مع الأعداء ولا ينقرض المشروع العدالي تحت خيول الظالمين وأرجلهم في السَّطْح السامريّ: ﴿فَلا تُشمِت بِيَ الأَعداءَ وَلا تَجعَلني مَعَ القَومِ الظّالِمينَ (150) قالَ رَبِّ اغفِر لي وَلِأَخي وَأَدخِلنا في رَحمَتِكَ [في السَّوْقِ التاريخي لاستنزال الرحمة الإلهية لكل الأرض] وَأَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ (151) إِنَّ الَّذينَ اتَّخَذُوا العِجلَ [باستعجالهم الأمر السياسيّ بعد تَوفَي مهمة الموسى] سَيَنالُهُم غَضَبٌ مِن رَبِّهِم وَذِلَّةٌ فِي الحَياةِ الدُّنيا(152)﴾ (الأعراف).
*-*-*
لم يكن الموسى في القرآن الكريم، موسًى كان في التاريخ، بل هو موسًى مجَرَّدٌ، يجب أن نجده في كل عالميةٍ؛ وأظْهَرُ موسًى في القرآن هو محمد بن عبد الله. ولم يكن «إسراء الإيلِ» إلا العبودية الخالصة لإله العالمين، وأهم تجلياتها هو الحضرة المحمدية إطلاقًا [﴿عَبْدِنَا﴾ (البقرة، الآية23)، ﴿عَبْدِهِ﴾ (الإسراء،الآية1)، أو﴿عبدُ الله﴾ (سورة الجن، الآية19)]. فنبؤة إسراءِ الإيلِ العِرْقيّة أو الإلحاقية لا تعني حضورًا تاريخيًّا، وإنما نبوّته الأنطولوجيَّةُ هي التي تستلزم الموسويّةَ بما هي القدرة على مناوَرة الشرّ،ِ وتستلزم الهارُونية بما هي الاكتمال الجماعي بدولة المشيئة، دولة العَدْل العالمية. فالمطلوب هو المَسْعَى الحثيث لِــ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾ (سورة الحاقة، الاية30)، بما هو مَسْعى اجتثاثي للتسلطيّة والكُلاَّنية حتى يكونا في مَحْضر: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29﴾ (سورة الحاقة)، فيكون هلاك كل السلطانيات الشيطانيّة عبر التاريخ.
«الموسى»، أو «المنقذ» في هذه السورة أجلى تطبيقاته: محمد بن عبد الله (ص)، الذي بفضله ﴿وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ [إذ أن النار الأخروية ممتدة إلى الدنيا] فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ (سورة آل عمران، الآية 103). والقرائن على ذلك كثيرة.
القرينة الأولى: هو أنْ لا نجعل السورة ﴿عِضينَ﴾.
القرينة الثانية: هو أن محمدًا بن عبد الله (ص) ﴿بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾ (سورة الأحقاف، الآية9)
القرينة الثالثة: ﴿كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ ما قَد سَبَقَ﴾ (سورة طه، الآية 99). فكل ما كان من الرُسل الماضين مِنْ «أنباء» أي من محطات «نابِئة»(= من محطات متميزة، فارقة)، سيَقُصُّها (أي سيقتفيها بحداثةٍ). ﴿وَقَد آتَيناكَ مِن لَدُنّا ذِكرًا ﴾ (سورة طه، الآية 99) أيضا، أن في تحديث سيرة محمد بن عبد الله (ص) لتلك الأحداث النائبة سيكون الأكثر ذكرًا، لأنّ تحديثه لها هو التطبيق الأفضل: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ (سورة البقرة، الآية 253).
القرينة الرابعة: هذه الآية: ﴿هَل أَتاكَ حَديثُ موسى﴾ (سورة طه، الآية 9). فالرسول محمد (ص) هو «حديثُ موسى»، أي الموسى الحديث، أي حداثة «الوسْي». وسنحاول معًا أن نثبت هذا الافتراض.
-
مَنْ هُمْ أهل النبي؟ ﴿ فَقالَ لِأَهلِهِ﴾/﴿ وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ﴾:
«أهل» المرء هم «ذو قرباه» أو «أخّص الناس به»[8]. فابن نوح المتمرد ﴿ لَيسَ مِن أَهلِكَ﴾ (سورة هود، الآية 46).
ولكن القرآن الكريم يعيد تأسيس المفردات العربية. فأهل بيت إبراهيم بن تارح (ع) في الاية 73 من سورة هُود هُم حَصْرا ابراهيم وسارّة وابن أخيه لوط، وضِمْنًا إسحاق وإسماعيل ويعقوب.
وأهل بيت النبيّ محمد بن عبد الله (ص) في الآية (33) من سورة الأحزاب هُم حَصْرا- آنئذ-: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (وضمنًا المقدَّسون المنحدرون مِن اليَعْقوبِ الحسين عليه السلام)[9].
أهل بيت النبي (ص) لحظة نزول سورة طه، أي لحظة وُصول الرسول (ص) إلى «المقام الطَّهَويّ»، هُمْ: رسُول الله (ص) + خديجة (ع) + علي بن أبي طالب (ع).
أمّا السيدة خديجة (ع)، فقد كانت الأوّل ظهورًا بعد رسول الله (ص) بالسورة، فهي الأكبر سنّا من الإمام علي (كرّم الله وجهه). وقرينة ذلك أن ربّ البيت مطالبٌ ظاهرًا بأن يوفّر هو «النار» لزوجته (أو: «زوجه» بالأصح).
قال المؤرخون في توزيع المهمات بينه وبين زوجه عليها السلام: «كانت لعلي (ع) المهمات خارج البيت، وكانت لفاطمة (ع) المهمات داخله».
قال الله تعالى عن ﴿حَديثُ موسى﴾، أي سيدنا محمد (ص)، الموسى الحديث، أو حَديث كل مُوسَى بالتاريخ، أنه ﴿رَأى نارًا قالَ لِأَهلِهِ امكُثوا إِنّي آنَستُ نارًا لَعَلّي آتيكُم مِنها بِقَبَسٍ أَو أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى ﴾ (سورةه طه، الاية10). و«النار» هي «روح القُدُس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية. رآها باكتمال عين بصيرته بنور الهداية»[10].
-
والدة أهل البيت: خديجة (ع):
لقد قال ﴿حَديثُ موسى﴾ لزوجه خديجة (ع): ﴿ امكُثوا ﴾ (طه، الاية10)، أي «اسكنوا ولا تتحرّكوا، إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحوّاس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها»[11]. فالسيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) مطالبة بالمكوث في العبادة حتى تكون «كُفْءًا» نسبيّا لرسول الله (ص)، وترتقي في مقامات الصِّدّيقيين حتى تكون أهلاً لإنجاب أهل بيت محمد (ص).
إنّ «مكوث» سيدتنا خديجة بنت خويلد (عليها السلام) على الصلاة والتسبيح: ﴿وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيها ﴾ (سورة طه، الاية132). وهو شرط لوصول الزوجيْن المقدسيْن للإتيان ﴿ بِقَبَسٍ﴾ من ﴿نارِ﴾ التفضّل الإلهي.
وهذا «القَبس» هو ﴿الْكَوْثَرَ﴾ عليها السلام، أي «المُضْغة» السيدة فاطمة بنت محمد (ع).
فقد قال رسول الله (ص) أن تَخَلُّق فاطمة (ع) كان من بركات لقائه بربّه[12].
لقد بشر الله تعالى محمّدًا (ص) وأعظم نساء العالَمين آنئذ (السيدة خديجة)، بـالكوثر (عليها السلام) ولكنه شرط ذلك بـ«الصلاة» مُقامة؛ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ َ[سنعطيك] الْكَوْثَر. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ (سورة الكوثر). ﴿فَاصبِر عَلى ما يَقولونَ ﴾ (سورة طه، 130)، بأنك ﴿الْأَبْتَرُ ﴾ (سورة الكوثر)، ﴿وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُروبِها وَمِن آناءِ اللَّيلِ فَسَبِّح وَأَطرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرضى﴾ (سورة طه، الآية 130). وكيف لا يرضى رسول الله (ص) وربّه الكريم (ولا كريم غيره) سيُعطيه ﴿ الْكَوْثَر ﴾، أي فاطمة وأهل البيْت؟!! ذلك مِصْدَاق: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ (الضحى، الآية5). فخديجة (ع)، حسب سورة الضحى، هي الوسيط الذي جعل أكبر «عائل» في التاريخ، أي أكبر مُنجز لملحمة القضاء على الفقر: ﴿ إِلّا أَن أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ ﴾؛ ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ (الضحى، الآية 8). فكان من أغنياء العالَم (وربما أغناهم على الإطلاق) ولكنه في الآن نفسه كان مموّلا للمسلمين الذين كانوا عبيدًا في مكة برؤوس أموال صغيرة ليصبحوا ذوِي استقلال مَعَاشي عن «المُترَفِين»، وكان مع خديجة ﴿عَائِلًا﴾ لكثير من اليتامى والأرامل.
ليس بإمكان أي امرأة في العالم آنئذ أن تكون والدة لأهل البيت الأخير في التاريخ الإنساني، أي التي يأتيها «القبس» الفاطمّي من الجنة الإلهية المحمدية إلا خديجة: ﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ [ولا تفكر في أي امرأة لولادة أهل البيت] إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ. وَرِزقُ رَبِّكَ [الذي أتاهُ خديجة] خَيرٌ وَأَبقى [لأنه ليس خيرًا ماليّا فحسب، بل هو خير الكوثر أيضا]﴾ (طه، الآية 131).
-
مَنْ هو «الهارون»؟ منْ هو «الطُّور»؟
«الهارون» في اللغة العربية-السريانية هو «الجبل».
و«الطُّور» هو «الجبل» أيضا، ولكنه عظيم دون الجبال. ولقد كان ابنا الإمام علي (ع) يُنْعَتان بـ«الجبلية»، إذ يُقال عنه: «(إنه لذُو قَرْنَيْها)، أي إنه لذو جبليها، وهما الحسن والحسين»[13]. «وقرن لالقوم هو سيدهم»[14].
ويتميّز «الجبل» بعدة صفات، لعل من أهمها: «علوُّه». فإذا كان الشاعر المادح للملك أو رئيس القبيلة «أيها الجبل!»، كان ممّا يقصد: «أيها العليّ! ايها الشامخ!». قال علي بن أبي طالب (عليهما السلام): «يَنْحَدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير»[15]. فهو طُورٌ عالٍ جدّا جدّا. أيُّ مُوسًى مِن المَواسين يطلب من ربه: ﴿رَبِّ اشرَح لي صَدري﴾ (طه، الآية25)، «بنور اليقين والتمكين في مقام تجلي الصفات لئلا يضيق بإيذائهم، ولا تتأذى وتتألم نفسي بطعنهم وسفاهتهم، فكما أتكلم بكلامك معهم أسمع بسمعك كلامهم وأجده كلامك، وأرى ببصرك إيذاءهم وأجده فعلك، فلا أرى ولا أسمع ما يقابلونني به إلا منك، فأصبر على بلائك بك ولا تظهر نفسي برؤيتها منهم، فتحتجب بصفاتها وصفاتهم عن صفاتك»[16]. وأيُّ مُوسًى من المَواسين يدعو ربّه: ﴿وَيَسِّر لي أَمري﴾، «أي: أمر الدعوة قُدْسك». وأيُّ موسًى يدعو ربّه: ﴿وَاحلُل عُقدَةً﴾، « من عقد العقل والفكر والمانعين عن إطلاق لساني بكلامك والجراءة والشجاعة على تصريح الكلام في تبليغ رسالتك وإعلاء كلمتك وإظهار دينك على دينهم بالحجة والبينة في مقابلة جبروتهم وفرعنتهم رعاية لمصلحة خوف السطوة »[17]. وذلك حتى يفهمه الناس: ﴿يَفقَهوا قَولي﴾، « لتليينك قلوبهم والخشوع والخشية فيها وتأييدك إياي من عالم القدس والأيد»[18]. إن أي موسًى مِن المَوَاسين له «هارونَ» من أبيه. و«الأب» ليس الوالد دائما، بل يمكن أن يكون العمّ[19]. وقد كان رسول الله (ص)، قد عيّن لكل مهاجريّ أخًا له من المهاجرين، واستبقى عليًّا ابْن أبي طالب أخًا خاصًّا به.[20] فهو ضروري «حتى يتقوى به ويستوزره في أموره ويعتضد برأيه مشاركا معاونا له في اكتساب كمالاته معللا طلبه بقوله: * (كي نسبحك) * أي: بالتجريد عن صفات النفس وهيئاتها * (كثيرا ونذكرك) * باكتساب المعارف والحقائق والحضور في المكاشفات ومقام تجليات الصفات * (كثيرا إنك كنت بنا) * أي: باستعدادنا لقبول الكمال وأهليتنا له * (بصيرا) * فأعنا واجعلنا متعاونين على ما ترى منا وتريد»[21].
– ﴿ يَا بَني إِسرائيلَ قَد أَنجَيناكُم مِن عَدُوِّكُم وَواعَدناكُم جانِبَ الطّورِ الأَيمَنَ وَنَزَّلنا عَلَيكُمُ المَنَّ وَالسَّلوى﴾ (طه، الآية 80):
يا بَنِي عَبدِ اللهِ (بني محمد رسول الله أعبد العباد العابدين) قد نجيناكم من عدوّكم القرشي (بالهجرة، وفي بدر وفي أحد…)، ونجيناكم من عدّوكم اليهودي (بنو قريظة، خيبر)، ونجيناكم من عدوكم الأعرابي (يوم حنين رغم غروركم!)، ثم نجيناكم من أخطر عدو: العدو المركّب مِن تحالف الأعداء (معركة الأحزاب)، ثم مِن أخطر عَدُوّ: الدولة الساسانية والدولة البيزنطية… ثم طلبنا منكم أن تُكملوا تلك النجاة وأن تتموها ذلك الأمن، فـ﴿وَواعَدناكُم﴾ أي حَضرْنا مواعدتهم لـ«الطُّور الأيْمن» لرسول الله (ص)، وهو «الجبل» الذي بناه الرسول، والذي يتحدث عن نفسه بقوله: «ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير»… فللرسول، أكثر من طُور، ولكنّ طُورَه الأيمن هو علي بن أبي طالب، جعله على يمينه، ورفع بيُمناه المقدّسة يُمنى ذلك الطُّور المقدّسة. أمَّا طُورُهُ الأيْسر فهو الإمام المهدي (ع).
هنالك قال رسول الله (ص): «من كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه.. اللهم انصر من نصره واخذل من خذله!».
هنالك، كان جميع المسلمين، الذين كانوا في الحج، مبتهجين: ﴿ وَنَزَّلنا عَلَيكُمُ المَنَّ وَالسَّلوى ﴾، مَننَّا عليكم باستمرار الولاية المحمدية إلى الأبدية وسلّيْناكم على حجم جهاد الشرّ العالمي بوجود «طُور» يَحمِي حِماكم، حتى قلتم: «بخ بخ! لقد أصبحت يا أبا الحسن مولَى كلّ مؤمن ومؤمنة!».
-
محمد (ص) وأمه و«أخته»:
كان الله تعالى قد أوحى آمنة بنت وهب (عليها السلام): ﴿ إذ أَوحَينا إِلى أُمِّكَ ﴾ فهي صِدِّيقة تزورها الملائكة. فوجهها سبحانه وتعالى بواسطة ملائكته كيف تتصرَّف حتى يكون أقدسُ الخلق ببطنها، ثم كيف تتصرف وهو جنين (عليه السلام)، ثم وهو طفل. وقد طلب منها الله تعالى: ﴿أَنِ اقذِفيهِ فِي التّابوتِ﴾ «في تابوت البدن أو الطبيعة الجسمانية»، ﴿ اقذِفيهِ ﴾ «في يمّ الطبيعة الهيولانية»[22]، ﴿ فَليُلقِهِ اليَمُّ ﴾، يمّ الحياة بساحل أمّ القرى، ﴿يَأخُذهُ عَدُوٌّ لي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ هو الإيلاف القرشي المنحرف عن الإسلام الإبراهيمي- الإسماعيلي.
ورغم هذه البيئة المنحرفة كان مشمولاً فيها بالمحبة: ﴿ وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنّي ﴾، أي « أحببتك وجعلتك محبوبا إلى القلوب وإلى كل شيء حتى النفس الأمارة والقوى [السائدة في القرية القرَشية]، ومن أحببته يحبه كل شيء. ﴿ولتصنع﴾ وتربى على كلاءتي وحفظي فعلت ذلك»[23].
ولمّا أصبح رسول الله (ص) نبيًّا ذهبت أخته إلى يثرب: (﴿ إِذ تَمشي أُختُكَ ﴾ (طه، الآية 40)). و«أخته» هي: « العاقلة العملية عند ظهورها وحركتها. ﴿فتقولُ﴾ للنفس الأمارة [السائدة في يثرب] والقوى المنعطفة عليه: ﴿هلْ أدلُكُمْ﴾ بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة على أهل بيت من النفس اللوامة وقواها الجزئية بفوات قرة عينها ﴿على من يكفله﴾ لكم بالتربية بالفكر والإرضاع بلبان الحكمة العملية والعلوم النافعة وهم له ناصحون معاونون على كسب الكمال، مرشدون إلى الأعمال الصالحة، معدون للترقي إلى المرتبة الرفيعة»[24]. هُنالك ﴿فَرَجَعناكَ إِلى أُمِّكَ ﴾، أيها اليتيم، الذي رجعت حزينا باكيًا من الأبواء (قرب يثرب) بعد أن دفنت أمك وعمرك 6 سنوات، مع الجارية المسكينة أمّ…
فبتلك الهجرة النبوية إلى المدينة حيث «كفله» الأوْس والخَزْرج، رجعت إلى حضن أمك، وأصبحت عزيزًا مكينًا، تزور أمك وأباك كل يوم، فأبوك بجانب الأرض التي نزَلْت فيها ناقتك المأمورة، وأمك غير بعيدة. وذلك ﴿كَي تَقَرَّ عَينُها ﴾، أمُّكَ الصّدّيقة، آمنة (عليها السلام)، ﴿وَلا تَحزَنَ﴾ (طه، الآية 40).
-
ظهور الدَّاعي وانبساط الرحمة الرحمانية في الأرض: الطُّورُ الخاتم:
إنّ ﴿الجِبالَ﴾ الإجرامية التي ترسخت سَوف تمرّ بسرعة:﴿وَنَحشُرُ المُجرِمينَ يَومَئِذٍ زُرقًا ﴿﴾ يَتَخافَتونَ بَينَهُم إِن لَبِثتُم إِلّا عَشرًا ﴾ (طه، 102-103). تلك ﴿الجِبالَ﴾ بما هي مراكز تأسيس «الطاغوت» و«الاستكبار» في الأرض.
فالطَّوْرُ المقدَّس، الأيْسر عليه السلام، «سيقطع دابر الكافرين بسيفه»[25]: ﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُل يَنسِفُها رَبّي نَسفًا﴾ (طه، 105)، فينسف الجور والظلم نسفا ويملأ الأرض عدلاً وقسطًا، ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفصَفًا ﴿١٠٦﴾ لا تَرى فيها عِوَجًا وَلا أَمتًا﴾ (طه، الآيتان 106-107).
فجميع العالمين ﴿يَومَئِذٍ يَتَّبِعونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ﴾ (طه، الآية 109). ذلك ﴿ الدّاعِيَ ﴾ هو الإمام المهدي (ع)، وهو﴿ لا عِوَجَ لَهُ ﴾ لأنه داعي الرسول الأعظم محمد (ص). يومئذ، تغشى الرحمة الرحمانية العالَم (في انتظار أن تهيمن الرحمة الرحيمية بعد يوم القيامة): ﴿ وَخَشَعَتِ الأَصواتُ [في الأرض] لِلرَّحمـنِ. فَلا تَسمَعُ إِلّا هَمسًا﴾ (طه، 108).
آنئذ ﴿ يَومَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفاعَةُ إِلّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحمـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولًا ﴾ (طه، 109)، وهو الطُّور الأخير، محمد بن الحسن (ع) لأنه الأعْلَم في العالَمين آنئذ (طه، الآية 110). يومئذ تسود الفضيلة الأخلاقية كل البشرية ﴿ وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا ﴾ (طه، الآية 111).
لقد فُتِن قوم المُوسَى الأعظم (ص) بَعْد لحظات مِن وفاته. فأضلّهم أحد السامريين. فكان ذلك الموسى ﴿غَضبانَ أَسِفًا ﴾ إذْ واعَدُوا ﴿ جانِبِ الطّورِ الأَيمَنِ ﴾، عليه السلام: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة، الآية 4). فإذا بقوا على هذه المُواعَدة للطّور (ع)، لا خَوفَ مِن الاستكبار العالمي وقوى النفاق الداخلية، وسيعم الخير والعَدْل العالَم إلى يوم القيامة: ﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ (طه، الاية82). فـ﴿ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ﴾ (سورة الجن، الآية16). وقال رسول الله (ص)، ولكنهم من سوء الحظ لم يسمعوه: ﴿ يا قَومِ أَلَم يَعِدكُم رَبُّكُم وَعدًا حَسَنًا أَفَطالَ عَلَيكُمُ العَهدُ أَم أَرَدتُم أَن يَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبٌ مِن رَبِّكُم فَأَخلَفتُم مَوعِدي ﴾ (طه، الاية 86). فالرسول (ص) لم يُدْفَنْ بَعْدُ آنئذ. فلقَدْ حُمِّل بعض المؤمنين ﴿ أَوزارًا مِن زينَةِ القَومِ ﴾، القرشي، فأخرج لهم سامريُّ عصرهم ﴿ عِجلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ ﴾، ﴿ يرجِعُ إِلَيهِم قَولًا وَلا يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلا نَفعًا ﴾، خالطًا الزينة الأموية ببعض ﴿ أَثَرِ الرَّسولِ﴾. وكانت النتيجة أن الإلاه السامري، احترق في مدة لا تتجاوز ثلاثة عقود ونُسِفَ في يَمّ التاريخ نَسفا، فمن المستحيل العودة إلى منواله السياسي، لينتصر عليه الإلاه الأموي الذي استند إليه لاختلاق إلاهه العِجْلي. فمَنْ أعْرض عن ﴿ الطّورِ الأَيمَنِ ﴾ ﴿ يَحمِلُ يَومَ القِيامَةِ وِزرًا ﴾ (طه، الآية100).
– الطُّورُ الخَاتم (ع) في سورة الطُّور الأيسر:
﴿ وَالطُّورِ ﴿١﴾ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ﴿٢﴾ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴿٣﴾ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴿٤﴾ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ﴿٥﴾ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴿٦﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴿٧﴾ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴿٨﴾ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ﴿٩﴾ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴿١٠﴾
أُقْسِم «بالطُّور» الذي له «كتابٌ مسطور» ( خارطة طريق/ بيان للناس سطّره له رسول الله (ص) مِنْ قَبْلُ). وكانت خارطة الطريق تلك ﴿ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴾ للعالمين جميعا؛ يقرؤه بـ﴿الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾ ليسمعه الجميع عَبْرَ، ﴿ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ﴾ بالفضاء الخارجي، بمساعدة ﴿ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾ سيدنا المسيح (ع). و«البَحْرُ» هو «العَالِمُ العظيم»[26]، فلا أعْلَم يومئذ مِن عيسى بن مريم (ع) بعد الطُّور الأيسر للرسول.
آنئذ ﴿ تَمُورُ السَّمَاءُ ﴾ النبوية ﴿ مَوْرًا ﴾، ﴿ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴾ باتجاه تحرير كل العالَم، من كل الظلم والجَوْر، ليرموا الجائرين جميعًا بإذن الله إلى ﴿ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾ ﴿ أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ (الطور، الآية 32).
﴿ فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ (من المنتظرين لذلك اليوم).
ورغم انقراض عديد الأنواع النباتية والحيوانية، يفتح ﴿الطُّورِ﴾ ﴿خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾ (الاية37)، ليعيد إنتاجها من جديد وينتهي عصر ﴿الْمُصَيْطِرُونَ﴾ (الآية37) إلى الأبد، ليبدأ عصر العدل الإنساني الطويل.
﴿الصْعَقَة﴾ (الآية 45)، صَعقة الظالمين جميعا، في الظهور المهدوي، يتبدّى المقام المحمدي الذي يهيمن على المرحلة المهدوية: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴿٤٨﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴿٤٩﴾﴾….فالانتصار القادم يتطلب تسبيحة شكرك مُسْبَقًا: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ ﴿١﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا ﴿٢﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿٣﴾.
خاتمــة: لقاء «حَدِيث موسى» (ص) بإله الرحمتين الرحمانية والرحيمية:
﴿أَنبَاءِ﴾ سورة طه هي كلمات تلقاها الطَّهَ (محمد (ص)) لتطوي له ذِكْرَهُ في العالَمِين إلى يوم القيامة. فالطاء إشارة إلى «الطّاهر»، جدّ المطهرين تطهيرًا، والهاء إلى «الهادي»[27].
فلقد كان اللقاء في ﴿الوادِ المُقَدَّسِ طُوًى﴾ من أجل تسليته حتى ﴿ لاَ يَشقى﴾. فالرحمة الرحمانية استَوت على عرش قلب النبي[28] فكان دائما يكاد يَبْخَعُ نفسه على آثارهم أسفا.
﴿فَلَمّا أَتاها﴾، تلك «النار» الإلاهية، ﴿نودِيَ ﴾ « من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية ﴿إِنّي أَنا رَبُّكَ ﴾ محتجبا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي متجليا فيها ﴿ فَاخلَع نَعلَيكَ ﴾ أي: نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرد عنهما فقد تجرد عن الكونين أي: كما تجردت بروحك وسرك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلت بروح القدس وتجرد بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال»[29].
وقد علّل الله تعالى وجوب الخلع بقوله: ﴿ إِنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى ﴾ (طه، الآية12)، أي « عالم الروح المنزه عن آثار التعلق وهيئات اللواحق والعلائق المادية المسمى طوى، لطي أطوار الملكوت وأجرام السماوات والأرضين تحته.».
ولكل موسًى ﴿ عَصا﴾ بيمينه « إشارة إلى نفسه، أي: التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه»[30]. فعصَا العقل يعتمد عليه الموسى «أعتمد في عالم الشهادة وكسب الكمال والسير إلى الله والتخلق بأخلاقه عليها، أي: لا يمكن هذه الأمور إلا بها»[31].
أما «الهشّ على الغنم»[32]. فهي « خبط أوراق العلوم النافعة والحكم العملية من شجرة الروح بحركة الفكر بها على غنم القوى الحيوانية ﴿ولي فيها مآرب أخرى﴾ من كسب المقامات وطلب الأحوال والمواهب والتجليات. وإنما سأله تعالى لإزالة الهيبة الحاصلة له بتجلي العظمة عنه وتبديلها بالأمن، وإنما زاد الجواب على السؤال لشدة شغفه بالمكالمة واستدامة ذوق الاستئناس»[33].
وبذلك «العصا» يكون «الثعبان» الذي يتلقف مُنْتَجات «السحر» و«الاستخفاف» الاستكباريَّيْن.
[1] . «موسى» من مادّة «و س ي» (ابن منظور، لسان العرب، المجلد 15، دار الفكر، بيروت، 1997، ص 392).
[2] . م. س.
[3] المغربي (نعمان)، تدبُّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم، (فصل: التدبّر في سورة العاديات)، دار المعرفة الدينية، بيروت، 2003.
[4] . م. س.
[5] . في بُطُون القرآن الكريم، نجد بني «إسراءِ الإيل»: تَارةً أتباع النبيّ موسى بن عمران في مصر (حتى آسية وابن عمها الذي يكتم إيمانه؛ وتارةً كل الشاميين، مواطِني الملكيْن: داود وسليمان؛ وتارةً أتباع إسراءِالإيل الحقيقي، التام: محمد ابن عبد الله الهاشمي. (راجع تدبرنا في سورة «الإسراء»).
[6] ﴿وَلَقَد بَوَّأنا بَني إِسرائيلَ مُبَوَّأَ صِدقٍ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ (يونس، 93).
[7] . الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج4، ص 235.
[8] ابن منظور، مادة «أ ه ل».
[9] راجع كل تفاسير المسلمين للآية 33 من سورة الأحزاب (وراجع تدبرنا فيها).
[10] ابن عربي، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001، ص 16.
[11] ابن عربي، م. س، ص 17.
[12] انظر مثلا: الكوراني (حسين)، في رحاب فاطمة، الزهراء، دار الهادي، بيروت، 2002.
[13] ابن منظور، مادة: ج ب ل.
[14] م، س، ص333 .
[15] ابن أبي طالب (علي)، نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.
[16] ابن عربي، م. س، ص 20.
[17] م. س، ص 20 أيضا.
[18] م. س، ص 20 أيضا.
[19] ابن منظور، مادة: أب.
[20] راجع: ابن هشام، السيرة النبوية.
[21] ابن عربي: م. س، ص 20 أيضا.
[22] ابن عربي، م. س، ص 20 أيضا.
[23] ابن عربي، م. س، ص 21.
[24] ابن عربي، م. س، ص 21.
[25] … كما جاء في الدعاء المأثور.
[26] …..
[27] ابن عربي، م. س، ص 15.
[28] ابن عربي، م. س، ص 16.
[29] ابن عربي، م. س، ص 17.
[30] ابن عربي، م. س، ص 18.
[31] ابن عربي، م. س، ص 18.
[32] انظر التدبر في سورة البقرة.
[33] ابن عربي، م. س، ص 18.