نشر سامي براهم تدوينة بعنوان (مناظرة مشبوهة) لم تكن صائبة في معروضها، فقد اقتنصها كما يظهر علينا بين الفينة والأخرى أبو يعرب المرزوقي، ولا يختلفان فيما يكنّانه من حقد غير قابل للزوال من قلبيهما على الشيعة كفرقة إسلامية، فما ذكره من تعليق يجعله عرضة للتهمة والإدانة بأنّه يسعى إلى تأليب الرأي العام الوطني على المسلمين الشيعة دون وجه حق، يمكن التماس العذر له.
لقد كان عليه أوّلا أن يتحرّى رشده في موضوع هذه المناظرة، مع أنني لست من أنصار هذه الطريقة الفاشلة، من بيان ما عليه فرقة إسلامية عريقة، لم يتجرأ على إخراجها من انتمائها الإسلامي، سوى من بقلبه مرض حقد سلب منه تعقّله، فانبرى يلوك ما لاكه قبله الفتّانون، فجنوا على أنفسهم بسوء المصير، وعلى الأمّة بضياع أوقاتها هدرا، وذهاب جهودها فيما لا يفيدها بشيء، سوى إن تلك المناظرات لم تقدّم لجمهور المسلمين من جميع الفرق، عوامل إثارة نوازع الفرقة، واستعداء البعض على البعض الآخر بالتحريض والتكفير وما يستتبعه من عدوان، والخاسر الوحيد هنا هم المسلمون أنفسهم بجميع طوائفهم، بذهاب ريحهم أكثر مما ذهبت، وتشتت جهودهم في مهاترات كلامية، لم يتقدم شيئا قديما ولن تقدّمه حديثا للأمة المتهالكة الضعيفة، بين قوى كبرى جعلت منها مغنما لخيراتها، وعملت منها سوق ترويج صناعاتها.
إنّ الذي تصوّره سامي بعقله، وأوحت إليه به مخيلته، ممثلا للشيعة أو إماما للشيعة في تونس، استباقا لحقيقة لم يبلغ كنهها، هي إيحاء غير نزيه لمن وثق به، ليورده على مغالطة لا وجود لها على أرض الواقع، فهذا الذي هو بصدد الحديث عنه شيخ طالب علم، وليس عموم شيعة تونس ممن يعتبرونه كما وصفه الدكتور لقرائه، وهناك من التونسيين من يفوقونه علما ومعرفة، ويرفضون الظهور على أي قناة ببرنامج لا يخدم الصالح الإسلامي العام، ونحن اليوم في امسّ الحاجة إلى تنقية تراثنا مما علق به من دسائس أحبار بني إسرائيل وفقهاء الحكام الظلمة، فليس هناك أمر أجدى نفعا للأمة الإسلامية من الابتعاد عن إثارة الفتنة بين المسلمين، وإن كان خلافا في مسألة فقهية، فقد يختلف فقهاء المدرسة الواحدة، فضلا عن المدراس الأخرى فيما بينها، وهذا ليس بالأمر الخطير الذي يهدد وحدة الأمّة، إنما الخطر الذي لا يزال يتهدّدنا، هو هذا التعصّب المَقِيت الذي تسلح به من تسلح من علماء ومثقفي الفرق الإسلامية، ليَخرُجوا به إلى العامة خروج المظفّرين، فيوهمونهم بأن الخطر القادم من هذه الفرقة أو الطائفة، وأعداؤنا من وراء ذلك، يحرّكون خيوط الإثارة والتأليب يصنعون أزِمّتها، فمتى نعي بأن إسلامنا ودولنا وأراضينا وشعوبنا مستهدفة واقعا، بواسطة هذه النعرات الخطيرة.
وعجبي كيف لأستاذ جامعي مثل سامي براهم يدّعي أنّ التشيع دخيل على تونس، وقد كانت إفريقية شيعية قبل مجيء الفاطميين، فقد نقل ابن عذاري المراكشي: (وكانت إفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة، وعلى خلاف السنة والجماعة.) (1)، فهذا مؤرّخ له مكانته صرّح بحقيقة إجماع أهل افريقية على الشيعة، بما يعنيه، أن التشيع لأهل البيت عليهم السلام كان سابقا للحنفية والمالكية، وأن غير التشيع لصفوة النبي الطاهرة، لم يقع قبوله من أهالي إفريقية بمحض إرادتهم، بل فرض عليهم بالقوّة من طرف حكّامهم، طبقا لمقالة: (الناس على دين ملوكهم)، والدخيل هنا من يسعى لتفريق المسلمين، وإثارة الفتنة بينهم.
اعتقد أن من يبحث عن عوارت غيره، ويراها بمنظاره كذلك، ليس بمقدوره أن يقنع بكلامه، سوى المخدوعين الذين رأوا فيه محل ثقتهم، فخانها بتهيّئاته، أنّ عدم ذهاب المسلمين الشيعة لصلاة الجماعة في المساجد بتونس – مع أنهم قديما كانوا من روادها وأستثني من بقي على ارتيادها – رغم الإختلاف في شروط الإمامة، والمكان الذي قد يكون مغصوبا من أصحابه، والإختلاف في الوضوء والتيمّم، وعلى ما يصح ّ السجود عليه، هو تقصير من التاركين لسنة الصلاة في المساجد، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، أستاذ فقهاء مدينة جدّه، سادس أئمة أهل البيت عليهم السلام – وقد تتلمذ عليه أو حنيفة ومالك بن أنس ومئات آخرون – بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (( وقولوا للناس حُسْنًا )) ثم قال: عُودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم) (2)
تضعيف رواية (صلوا وراء كل برّ وفاجر)، لا يعني أنه لم يُعمِل بها، فقد صلى أغلب المسلمين عبر تاريخهم الطويل وراء كل برّ وفاجر، وكم من رواية ضعيفة وحتى مكذوبة عُمِل بها قهرا أو اختيارا، يُقابِل هذا ما أخرجه كل من مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد : (سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. فقيل يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا).(3) أتساءل هنا أين دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ولا يمكنني هنا إلا أن أعتب على دكتور، ذهب به تعصبه في مغالطة قرائه، فادعى اعتقاد المسلمين الشيعة، (أن كل سني ناصبي وفي رقبته شيء من دم الحسين عليه السلام)، وهذا منطق لم يقل به إمام من أئمة الشيعة، ولا عالم من علمائهم، واعتقادهم في النّاصبي، هو كل من ناصب العداء لأئمة أهل البيت وشيعتهم، سواء بالحرب أو بإظهار مشاعر بغضه لهم والتآمر عليهم، وهذا من أبسط حقوقهم في الدفاع عن وجودهم وعقيدتهم الإسلامية، ومن شكّك فيها فهو أحقّ بالتشكيك في عقيدته منهم، ولا يحق لأحد تجاوز هذا الخط الأحمر، لأنه من اختصاص المولى تعالى : (ثم إلي مرجعكم فأنبئكم فيما كنتم فيه تختلفون)(4)
لقد خلط سامي براهم أصول الشيعة الإمامية، فجزأ سهوا منه أو عمدا الإمامة، وهي الرّكن الرابع، التي من شروطها العصمة، وليست معتقدا منفصلا عنها، كما الغيبة أيضا لأنها نتيجة وضع أمني استثنائي، في ظل تفريط الأمة بعنصر هدايتها، وهي واقعا الغائبة عنه وليس العكس، أما الوصية فإن كان الرجل قرأ كتاب الله بتدبر، فآية الوصية فريضة في سورة البقرة الآية 180، أما الرجعة فليست من أصول عقائدهم الخمسة وهي: التوحيد والعدل والإمامة والمعاد، وهكذا يتبيّن جنوح سامي براهم بين سلفية محترقة وإخوان مسلمون متعصّبون، لا يرون في عقائد الشيعة الإسلامية غير الضلال والكفر.
ولا أعتقد أن الهدف من تلك المناظرة تقبيح مذهب وتحسين آخر، بقدر ما قد يكون تقريبا بين أتباع المذهبين، وتعريفا لمن لم يتعرف على البناء المذهبي الشيعي أصولا وفروعا، مقارنة بالمذهب المالكي، في إطار من الإحترام المتبادل، وما أحوجنا اليوم إلى معرفة الفرق الإسلامية دون تعصّب، حتى لا يظلم احدنا بجهل فرقة منها، فيبوء بسخط من الله ورسوله صلى الله عليه وآله.
وعلى ما تقدّم فإن مسؤولية طيّ صفحة الصراع المذهبي، وقد كانت سائدة في غابر التاريخ، ويحركها ويدعمها الحكام الظلمة، اقصاء للرعية عن تناول شؤونها المعيشية، عملا بمقالة (فرق تسد) يجب تُعتبر وباءً خطيرا يجب التوقّي منه، كمقدّمة لبناء وحدة إسلامية حقيقية، تجمع كل المذاهب المعتدلة على صعيد واحد، في مسعى من شأنه أن يعيد للدين وقيمته التشريعية والأدبية العالية، ولا خير في نقد غير بنّاء، مثير لدواعي التفرقة والتنازع، والإسلام أوسع مما في محصّلة الدكتور سامي براهم عن المسلمين الشيعة مثلا.
المراجع
1 – البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ابن عذاري المراكشي ج1ص268
2 – وسائل الشيعة الحرّ العاملي ج5ص 382
3 –سنن الترمذي أبواب الفتن ج4ص113/ سنن ابي داود أول كتاب السنة ج5ص78ح4760
4 – سورة لقمان الآية 15